بات الإنترنت وما أفرزه من فضاء واسع يشكل قلقا واضحا جدا للمجتمعات البشرية وقوانينها وأعرافها وحتى تقاليدها وأخلاقياتها التي بنتها التراكمات الثقافية والفكرية عبر ملايين السنين، فالبشرية اليوم بصدد مستقبلها والشكل الذي ستكون عليه بعد نصف قرن، وربما أقل من ذلك.

فالسيبرانية بفضائها الواسع جدا ستوفر مناخا مناسبا لظهور أشكال متعددة لكل شيء من حولنا بلا مبالغة، وقد ظهرت جيوش المبدعين والموهوبين والمقاتلين الإلكترونية، على اختلاف ميولهم وتوجهاتهم، وستظهر مهارات وطرق إبداعية جديدة في كل يوم يمر في ثوب جديد، سواء كانت هذه الجيوش نظامية تابعة للحكومات أو الشركات العملاقة دفاعا عن مقدراتها وخططها، أو تلك التي ستقابلها من هواة أو متخصصي (القرصنة) أو من الذين يقبضون ثمنا لخوض المعارك نيابة عن الآخرين، وهو موازٍ منطقي جدا طالما بدأت مفاهيم التواصل والحروب والهجوم والدفاع بالتغير والخروج من أشكالها التقليدية.

وسيكون الاقتصاد هو أهم لاعب أساسي في هذه الحروب نتيجة تغير الحركة المالية التي تعتبر الآن أهم مفاتيح لعبة الاقتصاد العالمي ومربطه، إضافة إلى حركة التصنيع والابتكارات التي ستتحكم في مفاصلة التقنية والتكنولوجيا والبدائل غير الطبيعية للنفط، فالصناعة في كل الدول تقريبا ستركز على تطوير الذكاء التكنولوجي الذي يبدو واضحا أنه يكسب كل الرهانات حاليا، كما أن ظهور العملات الإلكترونية يبدو إشارة قوية جيدة لمستقبل التداول المالي على هذا الجانب، وهو ما سيجعل التحديات أيضا أكبر بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا متمسكين بفكرة النقد المادي للعملة.

وبدأت تظهر مشكلات كثيرة على السطح الآن، أُهمل تعلم أو طرح حلول لها لمواكبة التحولات العالمية على مستوى التقنية منذ ظهور الإنترنت «مع تطوّر الحواسيب الرقميّة في الخمسينات من القرن الماضي، حيث طُوّرت المفاهيم الأولية لشبكات الحاسوب في العديد من مختبرات علوم الحاسوب في أميركا وبريطانيا وفرنسا، ومنحت وزارة الدفاع الأميركية عقودا في وقت مُبكر من الستينات لتطوير أنظمة شبكات خاصة بها»، وهو ما تذكره المصادر مثل كتاب (تدويل الإنترنت: المشاركة في تطور التأثير والتكنولوجيا)، وقد اتسع اليوم الأمر أكثر ليكون مشاعا بين الناس، محققا بذلك رؤية الكتاب في تدويل الإنترنت الذي كانت انطلاقته على نحو عالمي واسع مطلع التسعينات الميلادية تزامنا مع ظهور برامج مثل ويندوز وماك وغيرهما، بينما تركت الأمور على الغارب في الدول العربية والعالم الثالث كما يُقال، إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة التي جعلتنا جميعا في مفترق الطرق فجأة، أمام مفهومي الأمن والجريمة بنوعيهما الجديدين وأشكالهما المختلفة تماما، إذ يمكن اليوم قتل الأشخاص مثلا من خلال لعبة إلكترونية مثل (الحوت الأزرق) التي راح ضحيتها العديد من الأشخاص حول العالم، وظهور ما يطلق عليه (المخدرات الرقمية).

من وجهة نظري، تتحمل المؤسسات التعليمية الحكومية وغيرها على مستوى العالم، جزءا كبيرا من مسؤولية هذه المشكلات، إذ إنها لم تواكب المتغيرات التي أحدثها الإنترنت كما يجب، حتى إن كثيرا منها وعلى مستوى العالم، تأخرت أو لم تدخلها كنظام أساسي ضمن سياسات مناهجنا التعليمية سابقا، ولو كتنبؤ بما سيحمله التطور الهائل لعالم الاتصالات والتواصل، مما جعلها تفرغ حيزا صغيرا هامشيا لها يدل على ضعف مستوى الاهتمام، وهو الذي تدفع الآن ثمنه على ما يبدو.وكان من الغريب حقا ويدعو للتساؤل، غياب الجامعات -التي تتمتع باستقلالية أكثر- والتعليم العالي مثلا، عن تبني هذا الاتجاه التعليمي أو التنبؤ بقدوم جحافل التغيير التقني وتأثيره على الأقل، والإسراع في تبني المواهب والمبدعين في هذا المجال الذكي، إذ كان من الممكن أن يستبق الأكاديميون في الجامعات في التنبه إلى مستقبل التواصل الإلكتروني العالمي الذي ظهرت طلائعه مع ظهور الإنترنت، وهو الأمر الذي يبدو أنه لم يكن ضمن حساباتهم كما يقوله الواقع على الأرض في الوقت الراهن.

الآن من الواضح أن كثيرا من دول العالم تهرول في كل اتجاه للبحث عن الموهوبين في هذا المجال حتى من خارج حدودها، لجمع أكبر عدد منهم لمواجهة ما يتوقع من حروب لن تسيل فيها الدماء بقدر ما سترفع معدلات الجوع والبطالة والجريمة ومعاناة الإنسانية ربما بشكل قبيح.

وهذه الهرولة مبررة جدا وسط النقص الكبير في المتخصصين في مجال الأمن السيبراني الذي ستبلغ ذروته -كما أتوقع- بحلول عام 2050، وربما أقرب من ذلك بعقد.

وبالتالي فإن الدول مطالبة لكي تحمي مصالحها، بالعمل على اجتذاب الموهوبين والمبدعين في هذا المجال، وتطوير أساليب نوعية مثل إنشاء المجمعات التقنية العملاقة لإتاحة الفرصة أمامهم لتنمية وتطوير أساليبهم الأمنية، واكتشاف المستجدات المتسارعة حول العالم على هذا المستوى، فالإبداع على الجانبين (المهاجمين أو المدافعين) هو من سيحسم المعارك السيبرانية، وهو من سيحدد نوعية العقاب والخسائر والمكاسب.

إذ تقول دراسة حديثة (2017) أجرتها مؤسسة البيانات الدولية (IDC) (International Data Corporation) مؤخرا، «إن 97 % من المنظمات متخوفة بشأن مهاراتها وقدراتها الأمنية، فيما أشارت تقديرات دراسة أخرى إلى أن عدد الوظائف الشاغرة في مجال الأمن السيبراني ربما يبلغ 1.8 مليون وظيفة بحلول عام 2022».

الرقم قطعا مخيف ومربك، فهذا النقص الحاد الذي سيتولد كنتيجة طبيعية للإهمال التعليمي على مستوى التقنية، سيدفع بالحكومات والشركات العملاقة بدون شك إلى المسارعة في استقطاب الماهرين لتغطية الفجوات التي ستكون نتاجا طبيعيا لتقدم التكنولوجيا المذهل. فدعونا إذن نراقب الخطوات القادمة عن كثب.