في عام 1364 من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، تم إيفاد محمود عباس العقاد لمرافقة الملك عبدالعزيز ضمن الوفد الرسمي في زيارته إلى مصر، فكان مما قاله ما يلي: (إذا عرفتَ الملك عبدالعزيز ثلاثة أيام، فكأنك قد عرفته ثلاث سنوات، أو لازمته في أطول الأوقات، لأن هذا الرجل العظيم مطبوع على الصراحة، ووضوح المزاج، لم تشتمل نفسه القوية على جانب من جوانب الغموض، فهو في أخلاقه وأعماله ومألوفاته يمضي على وتيرة واحدة، وأول ما يدهشك من منظره قوة النفس والعقل والحس على السواء، وهو الآن يناهز السابعة والستين، ويحتفظ بقوة عضلية لا تتوفر لكثيرين في سن العشرين أو الثلاثين.

ومواعيده في النوم واليقظة منتظمة في جميع المواسم والأوقات، فيستيقظ قبل الفجر، ويقضي نحو ساعة في التهجد وقراءة القرآن، ويصلي الفجر، ثم يستقبل بعض خاصته لإطلاعه على مهام الأمور التي تتطلب التعجيل، ثم يغفي قليلا ويخرج للناس.

ومن عاداته بعد العشاء أن يُصغي إلى فصول من كتب التفسير والحديث، أو كتب الأدب والتاريخ، ثم تُتلى عليه أخبار الإذاعة التي يتلقاها الموظف المنوط بها من أهم المحطات العربية والشرقية، فيُعقب عليها أحيانا تعقيبا موجزا، يدل على بُعد النظر، وتتبع الأحوال السياسية في مشارق الأرض ومغاربها.

والملك عبدالعزيز محدث طلق الحديث، يرسل أحاديثه بغير كلفة، ويُعرب عن رأيه الصراح بغير مداراة. قص علينا كيف استرد الرياض، وكيف ودعه والده، سأله أحدهم: ماذا كان رأي والدكم بعد فتح الرياض؟ فابتسم وقد بدا على وجهه التأثر والحنان، وقال: رحمة الله على والدي، لقد كان يعاملني: كأني أنا الوالد وهو الولد، وعلى قدر توقيره وحنانه لذكرى والده، رأينا آيات العطف والمحبة على ملامح وجهه كلما نظر إلى أصحاب السمو أبنائه النجباء، وهو يسميهم «ربعه»، ويحب أن يراهم أمامه، وجلالته عظيم العناية باستطلاع رأي شعبه، ولكنه يتكلم عن المسائل الكبرى بسليقة ديمقراطية، يستمدها من أصول الدين، ومن البصيرة النيرة، ومن أقضيته المشهورة، أن رجلا من المغرب طرأ على أهل مكة، وادعى أنه من سلالة بيت الشيبي الذين يتقلدون مفاتيح الكعبة، وأثار الثائرة، وأشغل الناس، فلما رُفع أمره إلى الملك عبدالعزيز دعاه، وقال: أنت طالب دنيا، أم طالب دين؟ فقال: بل طالب دين، فقال: هذه الكعبة أمامك اذهب وتعبد الله، وإن قلت طالب دنيا، فليس لك أن تنازع بلا برهان.

وأقول: رحم الله الملك عبدالعزيز فما أعظم نفعه على البلاد والعباد، ولقد صدق شيخنا صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ في وصفه بـ(المجدد)، لقد رحمنا الله به نحن أبناء هذه البلاد السعودية، وحّد البلاد بعد الشتات، وجمع الله به العباد بعد الفرقة، وجعلهم إخوة متحابين، بعد أن كانوا أعداء متباغضين، وجعل مفاتيح الشر من قطاع الطرق ونحوهم، جعلهم بتوفيق الله مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ولهذا انبهر به الغرب والشرق، فقال الفرنسي جان يينيز: (لقد أخرج ابن سعود من الرمال أمة جديدة)، وذلك لأن الله وفقه إلى صفات لا تتوفر إلا في المجددين، أهمها وأبرزها وأُسها: التمسك بالدين، والاعتزاز به قولا وعملا، والاطراح بين يدي الله، وإظهار الفقر والحاجة إليه، وهذا اللجوء إلى الله معروف ومشهور عن الملك عبدالعزيز رحمه الله، وقد لاحظ العقاد ذلك، فقال: (يستيقظ قبل الفجر، ويقضي نحو ساعة في التهجد، وقراءة القرآن).

هذه عادة الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ سواء كان مقيما، أو مسافرا أو متعبا أو محاربا، كان مستعينا بالله، فأعانه الله، كان ناصرا لدين الله فنصره الله (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وقد وفق الله الملك عبدالعزيز، أن كان ذا وعي سياسي بعيد المدى، وعقلية عبقرية نادرة، ومهارة فطرية عالية يصل من خلالها إلى ما يريد بكل سهولة، سمعت الأمير نايف رحمه الله يقول: (إن حسن البنا رئيس جماعة الإخوان، طلب من والدي الموافقة على فتح فرع للإخوان في السعودية، فأجابه: بعفويته وذكائه وفقهه لمآلات الأمور: (كلنا إخوان)، (إنما المؤمنون إخوة)، فسُقِط بيد حسن البنا، ولم يعرف ما يقول.

وإذا كان كثير من السياسيين يتميزون بالغموض وعدم الوضوح، فإن الملك عبدالعزيز، يُخالفهم في ذلك، فهو يتميز بالوضوح والصراحة، وهذا ما لفت نظر العقاد، ولهذا كرر هذه الملحوظة عدة مرات، إذ قال: (هذا الرجل مطبوع على الصراحة)، وقال: (يعبر عن رأيه الصراح بغير مداراة)، وقال: (لم تشتمل نفسه على جانب من جوانب الغموض)، ولا ريب أن صراحة الملك عبدالعزيز هي نتيجة لصدقه ونواياه الحسنة، وفي الحديث (الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)، فهو صادق في نفسه، ويحب الصدق والوضوح من غيره كذلك، قال لأبنائه في إحدى رسائله: (...كل ما سألتكم عنه أو ألزم عليكم فيه: تصدقوني فيه، بأي حال يكون).

وقول العقاد إن الملك عبدالعزيز: يتكلم عن المسائل الكبرى بسليقة ديمقراطية، يستمدها من أصول الدين، ومن البصيرة النيرة، يدل على أن من استند على أصول الدين، وكان ذا فهم وبصيرة بالحوادث والمستجدات، فإنه سيعلم الحقيقة خالية من الشوائب، وفي هذا يقول الملك عبدالعزيز: (أنا ترعرعت في البادية، فلا أعرف تزويق الكلام، ولكني أعرف الحقيقة عارية من كل تزويق).