يعد صندوق النقد الدولي أهم مؤسسة دولية تُعنى بشؤون السياسات الاقتصادية الكلية (النقدية والمالية)، وهو وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، أنُشئت بموجب المعاهدة الدولية عام 1945؛ ويقوم الصندوق على فكرة أن النمو الاقتصادي القوي يعتمد بدرجة رئيسية على تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي؛ وإقامة إطار مؤسسي أساسي لاقتصاد السوق؛ والانفتاح على الاقتصاد العالمي؛ وانتهاج سياسات هيكلية تتماشى مع متطلبات السوق.

وتكمن أهمية صندوق النقد الدولي في أنه يعد من أهم المصادر التمويلية التي تقوم بتمويل وإقراض البلدان المختلفة وليس الأفراد، وذلك لمساعدتها في حالة حدوث مشكلة اقتصادية أو عجز في ميزان المدفوعات، كما أنه يقوم برسم السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية للبدان التي تعاني من مشاكل اقتصادية لمساعدتها في أن تأخذ المسار الصحيح. وتتكون المصادر المالية للصندوق من اشتراكات الدول الأعضاء من خلال حصص نقدية تدفعها الدولة نظير عضويتها، وتتمتع الدولة بأكبر عدد من التصويت بناء على ما تقدمه من حصة مالية لعضويتها، وتمثل الولايات المتحدة الحصة الأهم بامتلاكها 20 % من حصص الصندوق.

ويستهدف الصندوق العمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، من خلال منع وقوع الأزمات في النظام الاقتصادي العالمي، عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة، هذا إلى جانب استفادة الدول الأعضاء من موارده عند حاجتهم إلى التمويل المؤقت لمعالجة ما يتعرضون له من مشكلات في ميزان المدفوعات، كما يهتم صندوق النقد الدولي بالإشراف على السياسات الاقتصادية للبلدان الأعضاء في أداء الاقتصاد الكلي، وذلك يشمل: الأداء في الإنفاق الكلي وعناصره الأساسية مثل، الإنفاق الاستهلاكي، واستثمارات الأعمال، والناتج المحلي، وتوظيف العمالة والتضخم، بالإضافة إلى ميزان المدفوعات في البلد «المعني» أي ميزان معاملاته مع بقية العالم.

ويوجه صندوق النقد الدولي اهتماماً كافياً للسياسات الهيكلية التي تؤثر على أداء الاقتصاد الكلي بما في ذلك سياسات سوق العمل التي تؤثر على سلوك التوظيف والأجور، كما يقوم بتقديم المشورة لكل بلد عضو حول كيفية تحسين سياسته في هذه المجالات، بما يتيح مزيداً من الفاعلية في السعي لبلوغ أهداف وطنية مقصودة مثل ارتفاع معدل توظيف العمالة، وانخفاض التضخم، وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام دون أن يؤدي إلى مصاعب كالتضخم ومشكلات ميزان المدفوعات.

وتلجأ الدول إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي عندما تواجه مشكلة في ميزان المدفوعات، وتكون هذه المساعدة في شكل قروض وتوصيات مالية ضمن برنامج يتم تحديد فترته الزمنية، ويطلق على ما يشتمله البرنامج من سياسات مالية واقتصادية «برنامج التصحيح الاقتصادي»، ويعتبر التصحيح جُملة من السياسات الاقتصادية والمالية التي تستهدف معالجة الاختلالات في توازن الاقتصاد الكلي داخلياً وخارجياً، والوصول إلى معدلات نمو عالية، مع تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ويشمل التصحيح الاقتصادي؛ الاستقرار الاقتصادي؛ والإصلاح الهيكلي على السواء، لإحداث التحول بالحجم المطلوب، وذلك يتطلب إحداث تغييرات في المؤسسات حتى تصبح في موضع المساءلة أمام الجميع، ولن تتحقق النتائج ما لم يكن هناك التزام طويل الأجل من جانب الحكومات وشركائها، للمساعدة في تحقيق أهدافها وتطلعاتها.

ومما يجدر التنويه إليه أنه يمكن أن تتم عملية التصحيح الاقتصادي بمساعدة صندوق النقد الدولي أو بدونه، ولكن في الغالب الدول النامية التي تتمتع بعضوية الصندوق تُجبر على إنجاز التصحيح عبر تطبيق سياسات الصندوق لحاجتها الملحة للحصول على التمويل الذي يوفره صندوق النقد، سواء من مصادره الخاصة، أو من مصادر أخرى مثل البنك الدولي والمؤسسات التابعة له والمنظمات الأخرى.

وبالاطلاع على تجارب دول عربية وغيرها من الدول النامية التي استعانت بالصندوق (ماليزيا وأخواتها) وبعض الدول الإفريقية، يتبين أن سياسات صندوق النقد الدولي لم تستهدف تصحيح الاختلالات المالية في موازين المدفوعات، بقدر ما تستهدف فرض حزمة كاملة من الإجراءات المالية والنقدية والاقتصادية التي تُعبر عن رؤية الصندوق المالية، التي يحكمها صوت الدول الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي أهمها: تحرير أسواق المال والتجارة، وإزاله الحواجز لانسياب السلع والتدفقات النقدية، وتقليص الخدمات الحكومية، ووقف الدعم، وتطبيق سياسة الخصخصة لتوسيع السوق الرأسمالي، وتأمين فرص أرحب للاحتكارات الرأسمالية.

 ولقد كان للأردن ولبنان ومصر والجزائر وغيرها من البلدان العربية تجارب مريرة في هذا المجال، فقد أسهمت توصيات وإملاءات صندوق النقد الدولي في تعميق الأزمات المالية والاقتصادية، بل وحتى النتائج الضعيفة التي حققتها بتخفيض متواضع في موازين المدفوعات كانت مؤقتة ولا تحقق تنمية مستدامة، وتأتي على حساب العمال والشرائح الوسطى في المجتمع، كونها ناجمة عن فرض الضرائب والرسوم الجائرة، خصوصا الضريبة العامة على المبيعات والضريبة الخاصة وغيرها من الضرائب غير المباشرة، التي يتحمل عبئها الفقراء، وقد لجأت الحكومات إلى تقليص الإنفاق على الخدمات العامة وخفض عائدات الطبقة العاملة من الإنتاج باسم «التصحيح الاقتصادي»، والتي تعتبر السياسة المالية والضريبية أهم أدواتها؛ والذي أدى إلى إحداث تغيرات ملموسة في التركيبة الاجتماعية باتساع طبقة الفقراء واضمحلال الطبقة الوسطى، وتركيز الثروة بين الطبقة الطفيلية؛ أما نتائج برامج الصندوق فقد أغرقت البلدان العربية بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والذي أكدته اعترافات مسؤولي الصندوق النقد الدولي ذاته؛ بأن السياسات التي اتبُعت في هذه البلدان تسببت في تفاقم عدم المساواة في الدخول، محذرة بضرورة اتباع سياسات مالية لعلاج تلك المشكلة، بالتوسع في ضرائب الدخل التصاعدية والإنفاق على التعليم والصحة!.

 ولعله من المناسب الإشارة إلى إن الظروف التي تأسس فيها صندوق النقد الدولي كانت لصالح الدول المتقدمة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو معني بشكل أساسي بالنظر في تحقيق التنمية لتلك الدول، وليس الدول النامية التي يطبق عليها الصندوق الشروط القاسية عند اللجوء إليه للإقراض، فصندوق النقد الدولي هو أداة في يد الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، ويتم استخدامه بما يتوافق وخدمة سياساتها وأغراضها، وتكمن مشكلة صندوق النقد الدولي في كونه أداة لتحقيق الأهداف والأغراض السياسية للدول المتقدمة، وبذلك يتحول الصندوق من دوره كمؤسسة تعاونية إلى مؤسسة سياسية، والذي ترتب عليه تسيس قرارات الصندوق الذي أدى إلى النتائج التالية:

1. تشجيع البلدان النامية على الاستدانة الخارجية وتكبيلها بشروط الدين الخارجي لإحكام السيطرة على الاقتصاديات النامية.

2. هيمنة الدول الرأسمالية الغنية على قرارات صندوق النقد الدولي.

3. عدم الاهتمام بالتنمية في الدول النامية وجعل أسواقها مفتوحة لتصريف السلع الرأسمالية الكاسدة وبأسعار مرتفعة واستغلال ثروات تلك البلدان وتحويلها للخارج.

 ولقد أرادت تلك الدول أن يكون صندوق النقد الدولي أداة بيدها لتنفيذ مشاريعها في الإقراض الخارجي، وخلق الفرص الذهبية لاستثماراتها في الدول النامية، ولهذا تصاغ سياسات صندوق النقد بما يتوافق مع سياسات الدول الرأسمالية الاحتكارية، ولذلك فهو مؤسسة سياسية وليست تعاونية، وهو وسيلة للاحتكار الاقتصادي والسياسي وليس الإنمائي.