ما الذي يحدث في المجتمع السعودي؟ حفلات، مسارح، اختلاط، سينما، وسماح للمرأة بقيادة السيارة وحضور للملاعب، وتغييرات كثيرة قادمة، فما هو الدافع لها؟ حسناً، نستطيع أن نقول في هذا الموضوع كلاماً يجذب بعض الناس، كأن نقول مثلاً بأننا نعيش مؤامرة كبرى على هذه البلاد، وأن الغرب الحاقد يريد إخراج المرأة من عفتها كي يسقط المجتمع تِباعاً في وحل الانحطاط، إلخ من هذا الكلام الفارغ الذي يجذب بعض الناس دائماً كونه عاطفيا يضع اللوم على قوى خارجية ويبرئ ساحة المجتمع، لهذا فهو خطاب يعجب هؤلاء، حسنا، ماذا عن الكلام الذي يغضب الناس، الذي يغضبهم بالطبع هو أن نقول لهم بأن الخلل فيهم.

والخلل الذي يعتبر أحد الدوافع وراء كل هذه التغييرات اليوم، أننا مجتمع عاش آخر أربعين عاما على الأوهام، والوهم من صفاته أنه إذا دخل في مجتمع فبسرعة ينتشر، وبنفس السرعة يتحول لقناعات ومبادئ راسخة، ثم يستلم المجتمع هذه القناعات الراسخة ليبني عليها نظاما اجتماعيا متكاملا، وهذا بالضبط ما حصل، سمحنا للأوهام بأن تسيطر علينا وتؤثر فينا، وفعلاً حولنا أوهامنا إلى قناعات ومبادئ حرمّنا حتى التشكيك فيها، ثم إننا فعلاً بنينا نظاما اجتماعيا على هذه الأوهام، غيرنا في سياسات التعليم مثلاً وفي أساليب التربية وشكل الثقافة.

من أبرز الأوهام التي سيطرت علينا، توهمنا بأن جهاز «هيئة الأمر بالمعروف» هو صمام الأمان الوحيد للمجتمع، وهذا الوهم بدوره تفرعت عنه أوهام لا حصر لها، أبرزها أن زوال هذا الجهاز يعني بالضرورة دخول المجتمع في نفق شهواني لا يأمن فيه الزوج على زوجته ولا الأخ على أخته، ومن الأوهام أيضاً أننا توهمنا أن الواجب الشرعي على المرأة يُحتِّم عليها أن تقِر في بيتها أسوةً بالصحابيات، رغم أن الصحابيات –رضوان الله عليهن- لم يقِرن في بيوتهن طيلة الوقت، إنما خرجن للتجارة وشاركن في الغزوات، وكانت لهن آراء ومواقف قوية في الشأن السياسي والاجتماعي، ما يعني أننا بنينا توهمنا عن المرأة بناءً على توهمنا بأن الصحابيات كلهن نسخة عن «مريم بنت عمران» عليها السلام، وأنهن اعتزلن الحياة الاجتماعية وجلسن في بيوتهن طيلة الوقت، ونتيجة لهذا الوهم المركّب تحولت المرأة من كائن حي إلى جوهرة مصونة.

من الأوهام أيضاً، وهو وهم معاكس لتوهمنا عن المرأة، ففي الوقت الذي تخيلنا فيه المرأة جوهرة مصونة، توهمنا بأن الشاب في حقيقته ليس إنساناً سوياً إنما كائن شهواني بالفطرة، إنه ذئب بشري يهيج إذا صادف فتاةً أمامه، والغريب في هذا الوهم أن المقتنعين به يرفضون معظم الحلول المقدمة للحد من التحرش، لأنهم أيضاً يتوهمون بأن قانون مثل قانون منع التحرش يخالف الشريعة الإسلامية، وهكذا رغم التوهم بأن المجتمع يتكون من جواهر وذئاب توهموا أن الحلول المنطقية رذيلة، وهكذا يتشعب الوهم في كل اتجاه بنفس السرعة التي ينتشر بها داخل المجتمع.

هذه بعض أوهامنا التي حولناها إلى قناعات راسخة، وغيرنا بها النظام الاجتماعي بالكامل، ومجتمع عاش على هذا المنوال سنين عديدة، فمن الطبيعي أن يخضع في الأخير لتغييرات صادمة ومفاجئة، وفي الحقيقة أحد الأهداف من كل هذه التغييرات أن تكون صادمة ومفاجئة للمجتمع، لأننا أوصلنا أنفسنا إلى مرحلة كان لا بد فيها أن نخضع لعلاج بالصدمات، والعلاج بالصدمات فعّال في حال لم يعد المريض قادراً على التمييز بين الوهم والحقيقة.

وللتدليل على أننا في مرحلة العلاج بالصدمات، يكفي أن نتأمل في طريقة تعاملنا مع كل قرار وتغيير، لنكتشف أننا نسير دوماً في نمط واحد لا يتغير، في البداية نصدم حين نسمع بتغيير قادم، ونصدم أثناء التغيير، ثم نصدم بعد التغيير، كمثال، حين علمنا بأن هيئة الأمر بالمعروف سيتم ترشيد عملها شعرنا بالصدمة، هذه الصدمة جعلتنا نعيد إحياء أوهام السنين، وافترضنا الأسوأ، بمعنى لو حدث هذا الأمر فحتماً ستحدث كوارث، كأن ينتشر الفجور في كل مكان، ويخرج التحرش عن السيطرة، وبعد أن تم ترشيد عمل الهيئة فعلاً، حينها شعرنا بالصدمة الأخيرة، كيف أن كل ما أقسمنا على حدوثه لم يحدث أي منه، والصدمة هذه المرة سببها اكتشافنا أن ما آمنا به كمسلمات هو في حقيقته مجرد أوهام، وعلى هذا النمط مضينا مع كل تغيير.

دائماً نصدم فور سماعنا بحدوث تغيير قادم، ودائماً الصدمة تجعلنا نفترض الأسوأ، وفي الأخير نصدم حين تتهاوى القناعات الراسخة رسوخ الجبال، وفي رأيي أن أحد الفوائد من كل هذه التغييرات أن يستيقظ الجميع، أن يكتشفوا أن ما يرونه حقيقة ماثلة أمامهم قد لا يعدو كونه سرابا، حينها سيعود المجتمع للحالة الطبيعية، وهذا لا يعني أننا سنصبح مجتمعا مثاليا إنما سنكون مجتمعا خاليا من الأوهام، أو مجتمعا نسبة الأوهام فيه طبيعية.

ختاماً، إن الهدف كان ولا يزال من زرع الأوهام في المجتمع هو أن يظل الجميع في حالة خوف وقلق دائم، من كل شيء وعلى كل شيء، وأن يفقد الناس ثقتهم في كل شيء، في أنفسهم وفي وطنهم ودينهم، والمجتمع الخائف فريسة سهلة، المجتمع الذي يفقد الأفراد فيه ثقتهم في كل شيء هو مجال ممتاز ليستثمر فيه المرضى، وما أكثر المرضى الذين استثمروا فعلاً في المجتمع لسنين طويلة، وفعلاً حققوا الأرباح، وهؤلاء المتربحون من الوهم يتزعمون اليوم لعن أي تغيير.