في اعتراف غير مسبوق لمسؤول رفيع في وزارة التعليم؛ أقرّ مستشار وكيل الوزارة للشؤون المدرسية عبدالله الجحلان بأن المعلم انصرف عن وظيفته الأساسية إلى الانشغال بالأمور الإدارية. جاء هذا في معرض حديثه أثناء ملتقى المعلم الأول الذي نظمته إدارة التعليم بصبيا لمدة يومين. كان حديث المستشار الجحلان ضمن جلسة العمل الأولى التي كانت بعنوان: «تخفيف الأعباء الإدارية عن المعلم»، وفيها أوضح أن المعلم يُهدر خلال اليوم الدراسي ما يقارب الـ55 دقيقة يوميا من وقته في أعمال ليست من صلب عمله الأساسي كمعلم، وينشغل عوضا عنها بأعمال إدارية أخرى. وشرح الجحلان أن هذا يؤثر سلبا على وظيفة المعلم وعلى عملية التعلم داخل الفصول والاستعداد لها، وقد يجد نفسه يؤدي عدة أدوار في وقت واحد.

الجيد في هذا المحور من جلسات الملتقى أن القيادات في وزارة التعليم تعترف بأن هناك خللًا في المنظومة التعليمية يتعلق مباشرة بالمعلم، وأنه ينبغي العمل على إصلاحه كبداية تتزامن مع إصلاحات أخرى كثيرة لتطوير التعليم. فالمعلم هو أحد المحاور المهمة للعملية التعليمية الثلاثة: (المتعلم– المعلم – المنهج) ولاحتكاكه المباشر والدائم بالطالب لا تقتصر مهمته على التلقين الحرفي للمنهج بل تتجاوزها إلى التأثير في الشخصية والإدراك والتربية للنشء. لهذا اتجهت الوزارة مؤخرا بالتزامن مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030، ولتحقيق أهداف برنامج التحول الوطني- للعمل على الرفع من مستوى المعلم المهني من خلال الدورات التدريبية المكثفة والمختلفة نوعا وكما عن السنوات السابقة. وبغض النظر عن استجابة المعلمين للتغيير الإيجابي الذي تطمح له الوزارة في موظفيها؛ فإن مهام المعلم مع محاولات التطوير المتنوعة تشعبت وازدادت حتى وقع في فخ الشكليات المرهقة، والأدوار الإضافية التي ذكر المستشار الجحلان بعضا منها في معرض حديثه في الملتقى المذكور أعلاه.

ولنستعرض حياة معلمة – لأنها الأقرب لمشاهدتي اليومية عن زميلها الرجل- فهي منذ ساعات الصباح الأولى تضطر للذهاب قبل الوقت بما لا يقل عن ساعة كاملة إن كانت المسؤولة ذلك اليوم عن «المناوبة اليومية» برفقة أخريات من زميلات العمل. تكون مهمتها أقرب ما تكون «لحارس الأمن» طيلة اليوم الدراسي؛ تقف جوار المدخل الرئيس عند بداية اليوم الدراسي ونهايته لتضبط الحضور والانصراف للطالبات، وتضبط الطوابير المدرسية، وتراقب الساحات المدرسية وقت الفسحة المدرسية مع متابعة نظافتها وفق جداول محددة مسبقا، وتحرص على بقاء الطالبات في الفصول بين الحصص الدراسية، وتنتظر حتى خروج آخر طالبة من المدرسة ولو كانت بعد الوقت الرسمي للدوام الحكومي. بينما تقوم عدة معلمات بالمناوبة اليومية في الصباح، توجد هناك أخريات يشرفن على الإذاعة المدرسية: الجداول الإذاعية اليومية، المحتوى وجودته، المسرح المدرسي وتجهيزاته الصوتية والمرئية وغيرها. وتتولى أخريات «التفتيش» على الطالبات ومطابقة زيهن المدرسي للاشتراطات والمعايير التي تضعها المدرسة. حين بدء الحصص المدرسية على المعلمة أيا كان تخصصها أن تحاول قدر الإمكان أن تنهي الحصة الدراسية خلال 45 دقيقة وهي تحمل أكثر من سجل لمتابعة الطالبات سلوكا، وحضورا، وأداء في المادة، وقد تكون لمادتها أكثر من كتاب، يضاف لها ملف لأعمال الطالبة يجب أن تملأه بأكبر قدر من الأوراق، لأن في الكثرة مقياس شكلي للجودة. إن اتسع لها الوقت فعليها متابعة تلك الكتب وما قد يكون معها من دفاتر وملفات، وتملأ السجلات الخاصة بالطالبات بالدرجات والتقييم والتحليل، فضلا عن وضع الأسئلة للاختبارات وتصحيحها ورصدها عبر منصات تقنية خاصة. قد تجد المعلمة نفسها مسؤولة عن الدخول لبعض الحصص التي تتغيب عنها زميلاتها وإن كانت لا تدرسها، وعليها في هذه الحصص أن تبتكر شيئا يبقي الطالبات منشغلات، ومن ثم توثقها لدى الموظفة المختصة بالمتابعة. وتشرف معلمات أخريات على المقصف المدرسي؛ إبرام عقود الشراء، البيع للطالبات، ميزانية المقصف وبنودها. كما أن هناك معلمات يتولين -كعمل إضافي مع المناهج المدرسية قلت أو كثرت- بعض الأنشطة الرئيسة بالمدرسة كالإعلام التربوي والجودة الشاملة والإرشاد الصحي والنشاط الطلابي، وما يتطلبه كل نشاط من أعمال ورقية وخطط وتقارير وملفات خاصة. ولا يخلو عادة جدول المعلمة اليومي هذه الأيام من نشاط لا منهجي إضافي ينبغي أن تنجزه حسب خطة موثقة وبإمكانات محدودة. تشارك الإدارة المدرسية في تلك الأدوار وتزيد عليها بأنها المسؤولة بشكل مباشر عن نظافة المدرسة وتجديد طلائها وبعض التحسينات فيها، والحرص على اكتمال السجلات الورقية التي ترضي الزائرة المسؤولة عن المدرسة، وعليها تقيس تقدمها وتميزها من خلال «منظومات» تبتعد عن الواقعية التي يحتاجها الميدان المدرسي، وتضطر معها أن تخرج المعلمة من دورها الرئيس، وأن تتولى والإدارة المدرسية مهمات أخرى، وأن تؤدي أدوارا إضافية مع دورها الرئيس.

الطالب هو اللبنة الأولى للتعليم، وجل العملية التعليمية في كل مكان بالعالم تحرص على بناء شخصية هذا الفرد منذ الصغر، من خلال التعلم الذي يناسبه في المدرسة، وفي هذا الوقت يحتاج الطالب نمط تعلم يتماشى مع العصر الحديث والحاجة فيه للتجديد الدائم والتعلم الذاتي المستمر، وبناء الشخصية القوية القادرة على التحليل والعرض والتفكير الناقد. جميع هذه الأمور وغيرها لن تتحقق والمعلم منصرف لشكليات فرضت عليه وأخرجته من فصله الدراسي إلى متاهة من التعاملات البيروقراطية، وأكوام من الأوراق التي لا جدوى منها في واقع التعليم. حينما تعيد الوزارة المعلم إلى الفصل وإلى الطلاب فقط دون الأعباء الأخرى، قد نجد معلمين أكثر ولاء لأعمالهم، ومتعلمين بمستويات تحصيل أفضل من الآن. ولعل خصخصة التعليم تكون طريقا لإنصاف المعلم ومنح الطالب ما يستحق.