ثلاثة وعشرون عاما منذ دعي المفكر والأديب الدكتور تركي الحمد إلى مدينة أبها. كان النادي الأدبي قد توقع ألا تكفي قاعته للحاضرين، فاستعان بصالة نادي الوديعة الرياضي. إذن سيأتي الحمد! انتشر الخبر في أرجاء الجنوب، وعلى الفور باشر الحركيون الخطة المعتادة: مخاطبة جميع الجهات الرسمية ذات الصلة، في المنطقة أو على الوزارات والديوان، بهدف إلغاء المحاضرة (هل تذكرون كلمة المفاكسة!)، أما في حال لم يستجب لهم فسيبدأ العمل على الخطة البديلة: ملء مقاعد الصفوف الأولى مبكرا، المقاطعة كل الوقت، وفي النهاية سينبري أحدهم للتعقيب الطافح بالتهم الملتوية والتهجم والطعن، ولا أحد سيمكنه منعهم، رغما عن أي ترتيب أو تنظيم، أخيرا ستعم هتافات التكبير والنصر، وتفسد المحاضرة، وقد كان هذا ما حدث، زيدوا عليه أن صاحب التعقيب، وقد كان قياديا لا تكسر له كلمة، طلب من الحضور الانصراف، فترك كثيرون الصالة وغادروا.

إليكم مفارقتان:

الأولى: تلك الأيام كنت للتو التحقت بالجامعة، ومثل مئات الطلاب فقد بلغتنا توجيهات الخطة، خطة الاحتساب، لكن ماذا حدث فيما بعد؟ رحنا نحن الطلبة نتناقل ثلاثية تركي الحمد بالسرّ، في ملازم مكتبية منسوخة، قرأناها وتبادلناها في الخفاء كممنوعات.

الثانية: أعرف شخصين، تمام المعرفة، كانا موجودين بالصالة تلك الليلة، وكلاهما صديق دراسة، أحدهما لم تنطو عليه الخطط ولا العداوة، قرأ وفكر وسمع وتساءل وناقش، صار مشتغلا بالحياة، أقام بيتا وأسرة وأصدقاء، يعمل وينتج، ويحب ناسه وبلاده. أما الثاني، فقد كان من الذين هتفوا بتكبيرات النصر والفوضى ليلتها بحماس منقطع، ثم ماذا حدث فيما بعد؟ لقد انهمك في عدائنا وعداء العالم كله، خدعته الكراهية وشيوخها، وقبل سنوات طار إلى ساحات الصراع والعدم، وفي عام 2013 أصيب في غارة على داعش، وقتل! يا للحزن!

عانى تركي الحمد المرارات التي لم تتوقف طيلة مسيرته، إن في الحيز العام، وإن في جانبه الشخصي، لم يسلم من الأقدار، ولا من الناس، ولا ممن في يدهم فعل الأشياء، وحتى يومنا هذا وكثيرون يتصيدون عليه نسمة الهواء. خذوا جولة في الردود على أي شيء يكتبه عبر حسابه في تويتر، سترون كم هذه التعليقات من تلك السلالة، وامتداد مشابه تماما، لذاك «التعقيب» قبل قرابة ربع قرن!

بوسعكم أن تختلفوا مع الحمد، فطالما كان العقل والاختلاف والحوار والوطن والإنسانية جزءا أصيلا من فكرته، لكن انظروا لمنجز هو مكانته، وأين هو الآن ومستقبلا من التاريخ! ثم انظروا لمن كذبوا وافتروا وتقوّلوا عليه، وشتموه وشمتوا بمصائبه، كيف تتهاوى فكرتهم المغلقة عن الوجود، وتستبعدهم حركة الزمن! وهذه ليس مفارقة ثالثة، بل حتم!