هناك عدة أشكال للتعامل مع التاريخ، بعضها يدعو إلى الموت والآخر إلى الحياة، فإذا تأملنا في بعض الصراعات الدائرة، وجدنا أن هناك من يريد استدعاء الماضي البائد ليحاكم الحاضر، فالفرس خرجوا مع الخميني لاستعادة إمبراطورتيهم التي سحقها العرب الأوائل، وهو ما أيقظ الصراع الشيعي السني لنجد أننا صرنا نناقش أحداث الفتنة الكبرى وكأننا ما زلنا بينهم، في حالة أشبه بالمرض النفسي، يريد فيها فلان أن يقتل فلانا لأنه مع يزيد أو لأنه من شيعة الحسين.

ولم نكد نتخلص من هذا الصراع حتى ظهر العثمانيون الجدد بأحلام العصافير وهم في طور استعادة سلطنة بائدة لم تنقرض وتتلاشى إلا بسبب ظهورها كحدث طارئ غير طبيعي وغير صالح للاستمرار، ولم يتمكنوا من فهم حجم هذا الانقراض في زمن صعود الوطنية ودولة الخدمات العامة وانكشاف العالم وتحركه وفق معطيات جديدة.

هذه الحياة في التاريخ تصيب حتى بعض من يصنفون بعلماء ومفكرين ومثقفين وفي كافة الاتجاهات، لنجد من يحارب الفلسفة وكأنها لم تراوح مكانها من زمن أرسطو، ولنجد أن هناك من يتناول في دراسة الدكتوراه رأي ابن تيمية في الصوفية وتحذيره من خطرها وشرورها في القرن الهجري السابع، أو من يناقش آراء ماركس بحماسة بعد كل السقوط الذي حدث للحلم الشيوعي، أو من يعارض رأي دارون في التطور وكأنه ما زال في القرن التاسع عشر.

بالمقابل فقراءة التاريخ هي التي تجعلنا نفهم الحاضر، فمع الانتخابات الرئاسية المصرية والتي تكللت بوصول حركة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، كانت سمعة الحركة آنذاك في عنان السماء، بصفتها من تمثل الإسلام المعتدل ودعاة التحضر والسلام وحلم مشروع الإسلام السياسي الذي لم يتمكن أحد من إثبات صلاحيته للحياة حتى لو من خلال التنظير، ولم يفهم آنذاك حجم الشرور التي يمكن أن تصل إليها تلك الحركة إلا من قرأ تاريخها الذي يمتد لأكثر من 80 عاما، وعرف طرق ظهورها واطلع على أحلام منظريها وشاهد تجلياتها التي اتجهت إلى العنف والإرهاب وقام بتحليل وجودها التاريخي وقارنه بمدى التناقض الذي عاشه ويعيشه مع الحياة البشرية.

وهو ما يجب أن نفعله مع بقية القضايا، فسمعة العثمانيين الترك الجدد والتي صعدت في العالمين الإسلامي والعربي في السنوات الماضية هي التي أوهمتهم بحلم القوة البائدة، قبل أن ينكشف مدى تخلفهم وشرورهم في الآونة الأخيرة، ولم يعرفهم من بداياتهم إلا من قرأ التاريخ وأدرك أننا أمام جماعات تائهة عن الحضارة الحديثة، وتبحث لها عن موطئ قدم في القرن الميلادي الخامس عشر، لجماعات أدمنت قصص التاريخ الساذجة وعشقت مسلسلاته فاستبد بها الحماس لاستعادة المدينة الضائعة والتي كانت النموذج المطلق والكامل للعدل والازدهار.

أحد الطرق الباعثة للحياة في قراءة التاريخ هو اكتشافه من خلال العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم الإنسان (الإنثروبولوجيا)، والذي يوصف دائماً بعلم الأمم المتحضرة، فهو ليس طريقة لمحاسبة الكائنات الحية القديمة، ولكنها طريقة لتطوير كافة العلوم الحديثة والإعلاء من مبادئ التحضر، وهي العلوم التي تساعد على فهم الموروثات الثقافية التي شكلت حضارتنا الحديثة، وكيف يمكن من خلالها أن نتجه إلى طريق أفضل، أو كيف يمكن لنا استثمارها اقتصادياً، ولو نظرنا إلى هذه الحضارة المعاصرة لوجدناها تراكمات تقادمية تطورية لجهود الإنسان ومحاولاته وإصراره على البقاء طوال آلاف السنين، وأحد الأمثلة التي نستشهد بها لذلك هو أنظمة التقويم وأسماء الأيام والشهور وطريقة استخدام الأعداد والحروف الأبجدية والتي تطورت بالتقادم وما زالت تؤكد على استخدامنا لأساليب الأسلاف. ولو نظرنا إلى السعودية وكيف عادت لتكون إحدى أكثر الدول نفوذاً في العالم وكيف انشغل بها الكوكب الأرضي بما فيها من إيجابيات أو مساوئ، فلأنها دولة مجتمع وجد نفسه يملك موروثات أمة مؤثرة كانت لها أدوار تاريخية وحضارية كبرى واستطاع أن يعود إلى الواجهة فور قدرته على استثمار موارده من جديد، غير أنه أيضاً يمكن أن يقع مثل أي مجتمع في أزمة الحياة في التاريخ، فالحكمة هي استثمار تلك الموروثات وتكييفها مع معطيات العصر الجديد مع القابلية للتغيير لأجل البقاء، وهو ما لا يتعارض مع الهوية إلا إذا كانت الهوية أداة للموت، فالحياة في التاريخ إما أن تكون لأجل الموت أو لأجل الحياة، ولن تعيش أمة بخير وهي تحاكم حاضرها من خلال نقاشات الموتى أو تستمر بالبقاء في نفس الدائرة التي تستعين فيها بآراء الأسلاف، ولن تثبت أمة على هويتها وعقيدتها إلا إذا كانت تملك القدرة على التغير، وإلا فإن التغيير سوف يسحقها وهي في حالة استسلام خالص.