حين تكون على جسر الجمهورية متجها إلى ساحة الحرية، وترى النصب التذكاري الذي أبدعه الفنان العراقي جواد سليم عام 1961، وتتجه يمينا إلى ساحة الفردوس حيث أسقطت القوات الأميركية تمثال صدام، وتقلب عينيك في أرجاء بغداد لترى آثار الحروب والحصار والفساد والإرهاب، تعلم أن نزاراً عندما ألقى قصيدته «إفادة في محكمة الشعر» في مهرجان الشعر التاسع ببغداد بعد النكسة، وضع اللوم على قريش وعبد شمس، ولم يعلم أنها خلاخل والبلا من داخل، وفي نظريات السيمانتك أو المعنى ليس المعول عليه هو الخبر الظاهر المعلن، وإنما في المسكوت عنه أو النص الغائب، وهي المعاني التي تدخل في علاقات غير مباشرة يكون فيها المعنى مختلفا تماما عن المعنى أو الخبر الظاهري.

على الرغم من حديث القادة العراقيين عن أن المرحلة السوداء من الطائفية والمذهبية قد ولت أو خفّت إلى حد كبير، لكن ما لا يصرح به هو أنها رغم ذلك لا تزال موجودة، وتؤثر على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية، وأن بعض المكونات السياسية ما زالت تتلقى أوامرها وتوجيهاتها من إيران، وأن النصر على داعش على الأرض لم يقض تماما على الفكر الداعشي والقاعدي، ويتم الحديث عن كل ذلك بدبلوماسية شديدة النعومة كالانتقال من المحاصصة إلى الائتلاف، وأن الحرص على توازن المكونات يأتي خوفاً من الماضي والمستقبل حسب تعبير رئيس الجمهورية، أو كما يقول دولة رئيس الوزراء «إننا نجحنا في التحكم في الطائفية السياسية، ولكننا كمسؤولين لا نستطيع معالجة الطائفية، وإنما هي بيد المواطنين»، وكثير من القادة العراقيين يبررون تغول إيران في العراق بأنه بعد انهيار الدولة وتوحش داعش الذي وصل إلى مشارف بغداد من كل الجهات، مدت إيران يدها للعراق في حين تخلى العرب عنه، وهو تبرير يفتقد الواقعية؛ فالكل يعلم تغول إيران في العراق بعد 2003 وسيطرة أذرعها العسكرية، وما قامت به حكومة المالكي بعد ذلك، مما لم يتح مجالاً للعرب لمساندة العراق رغم الزيارات العراقية بأعلى المستويات لدول الجوار العربية، وقد يكون للقادة العراقيين وقتها رغبة صادقة في العودة للمحيط العربي، ولكن حسابات الحقل غير حسابات البيدر، والتعاون الإقليمي والدولي لا يتحقق بالنوايا الحسنة فقط، فهناك في العراق أربع منظمات لا تدين بالولاء لغير إيران، هي: (1) حزب الله العراقي الذي يضم لواء أبي الفضل العباس وكتائب كربلاء وكتائب زيد بن علي وكتائب علي الأكبر وكتائب السجاد، واندمجت معا في 2007، ويرأسه واثق البطاط. (2) منظمة أو فيلق بدر الذي تكون في إيران أيام صدام حسين، ويرأسه حاليا هادي العامري. (3) عصائب أهل الحق التي تأتمر بالولي الفقيه في إيران، ويرأسها قيس الخزعلي. (4) سرايا طليعة الخرساني الذي يعمل أمينها العام علي الياسري تحت إشراف الحرس الثوري مباشرة. أما الحشد الشعبي الذي يقدم نفسه على أنه مكون وطني يضم الشيعة والسنة والكرد والتركمان فعلاقاته العسكرية والسياسية المباشرة مع إيران واضحة، وتحسب المكونات السياسية العراقية حسابها، وهو لا يحسب حسابا في العراق لأحد سوى السيد علي السيستاني. وهذه المنظمات استخدمت الاغتيال كما تستخدم الآن الترهيب والترغيب، أو على الأقل وضع العصا في دواليب القاطرة الوطنية التي تسعى للعودة إلى المحيط العربي.

هذه المنظمات التي تغذي وتحرك الهجوم ضد السعودية، وتتهمها بأنها السبب في تصدير داعش للعراق، تعلم علم اليقين، ويعلم أيضاً كثير من النخب العراقية أن القاعدة وداعش في العراق والشام صناعة عراقية سورية، وهم يعلمون أن نواتهم كانت من مجموعات الأفغان العرب التي استقدمها صدام أثناء الحصار، ووفر لها معسكرات في المنطقة الصحراوية غرب العراق، وأن حملة اجتثاث البعث بعد الاحتلال دفعت كثيراً من البعثيين إلى الاستعانة بالإرهابيين أو التحالف معهم، والمرحلة الثالثة عندما أحس السنّة باضطهاد الإرهابيين الغلاة من الشيعة لهم في فترة نوري المالكي بالاغتيال والسجن والمحاكمات الصورية والاعتداء على الأموال والأعراض، فانضم بعضهم إلى داعش أو تعاطف معهم، والجميع يعلم أن 8 من قيادات داعش العليا الاثني عشر هم من الحرس الجمهوري، وأبوبكر البغدادي من سامراء، وأخيرا اتفاقات قاسم سليماني مع بعض قيادات داعش في السر ومحاربتها في العلن.

وهناك قضية أخرى بدأ العراقيون يتنبهون لها، وهي الدور القطري والإخواني في العراق، فالذين غذوا التحرك والاحتجاجات والمظاهرات في العراق في الساحات بنفس تكتيك ميدان التحرير ورابعة العدوية في مصر هم الإخوان وبأموال قطرية، وكشفت وثائق واعترافات خميس الخنجر العراقي الذي يحمل الجنسية القطرية منذ 2012 عن الدور القطري الواضح في العراق، واستغلت الأذرع الموالية لإيران والإخوان في محاولة لصرف الأنظار عن الدور القطري بإقحام السعودية في ذلك، وهي لا علاقة لها بذلك من قريب أو بعيد، ولعل أذكى ربط لعلاقة قطر بالإرهاب في العراق ما قاله نقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي، من أنه منذ مقاطعة السعودية ومصر والبحرين والإمارات لقطر لم تحصل في العراق أي عملية تفجير مفخخ أو اغتيال، وهذه الملاحظة سمعتها أيضاً من بعض الباحثين في الداخلية العراقية.

يعول المسؤولون العراقيون كثيرا على مجلس التنسيق السعودي العراقي الذي بدأت تظهر آثاره على تسريع العلاقات التجارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمن الرحلات الجوية المباشرة إلى طلب فتح المزيد من المنافذ البرية، وتسهيل إجراءات الاستثمار في العراق، وهم يتطلعون إلى الاستثمار السعودي بشغف كبير، إذ يقول أحد المسؤولين العراقيين إن العراق المعروف بأرض السواد نسبة إلى كثافة النخيل والزراعة أصبح يستورد سنوياً ما يعادل 50 مليار دولار من الخارج، أي حوالي نصف الموازنة العراقية، والمؤلم أن العراق البلد الزراعي صار يستورد حتى الخضار والبطاطس من الخارج، وهناك نحو 4 آلاف شركة إيرانية ومثلها تركية في العراق، ويهمها ألا تتحسن علاقاته مع السعودية، ويبقى ضعيفاً محتاجاً إليها، فيما يرى وزير الصناعة العراقي أن الصادرات السعودية تمتاز على غيرها بثلاثة أمور: سرعة الوصول والجودة العالية وانخفاض السعر، ولعل معرض بغداد الدولي الـ 44 في أكتوبر 2017 يكشف حجم المملكة في العراق، فالعادة أن يحضر المعرض في كل دورة من 200 – 300 ألف زائر، وهذه السنة وصل العدد إلى مليون و300 ألف، وكان الزحام الأشد على جناح المملكة العربية السعودية.

إن اعتماد السعودية على كل عناصر القوة السابقة يجعلها تأخذ مكانتها الطبيعية في العراق، كما هو عبر العقود السابقة وأفضل، متى ما توفرت لدى القيادة العراقية الجديدة، القادمة بعد أشهر في انتخابات مجلس النواب الذي سينتخب بدوره رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، الرغبة الصادقة في جعل العراق حرا مستقل الإرادة مستقل القرار، بعيدا عن التأثير الإقليمي الذي يؤثر على مصلحة العراق العليا.