إن عقلية الجماهير وكيفية صناعة الرأي في هذه العقلية تستحق الدراسة من أجل الخلوص إلى نتائج، حتى وإن كانت هذه النتائج قد تؤدي إلى الاندهاش أو الغرابة في بعض الأوقات، لأنها لا تخضع لقانون فيزيائي أو حسابي، وإنما لعواطف ومشاعر تتبلور وتتكون بفعل عناصر عدة تتشكل لتخرج اتجاهات وميولات تثير اهتمامنا بعقلية الجماهير وصناعة الرأي بسبب توليفة مختصرة لبعض الاتجاهات، من العلوم الاجتماعية والنفسية والسياسية والإعلامية والقانونية.

فالإنسان هو الإنسان سواء في الشرق أو الغرب، ولكن البيئة والظروف والخليط من المكونات الجيوسياسية والنفسية هي ما تشكل لديه الشخصية، وعلى ضوئها تصبح السيطرة أو التحكم أو التحريك في عقلية هذه الجماهير تُبني على ذلك.

غوستاف لوبون -المفكر الفرنسي- يطرح تساؤلا حول عقلية الجماهير، مضمونها هل ينبغي أن نأسف لأن العقل لا يقود الجماهير؟ ويجيب على ذلك بقوله: نحن لا نجرؤ على قول ذلك.

لا ريب في أن العقل البشري «قد فشل في زج البشرية إلى طرق الحضارة بكل تلك القوة والجرأة التي أثارته فيها أوهامه. وبما أن هذه الأوهام هي بنت اللاوعي الذي يقودنا ويحرکنا، فربما کانت ضرورية. وکل عرق بشري يحتمل في تكوينه العقلي أو الذهني قوانين مصيره، وربما کان يخضع لهذه القوانين بغريزة محتومة حتى في نزواته الأكثر عقلانية ظاهريا. ويبدو أحيانا أن الشعوب خاضعة لقوى سرية مشابهة لتلك التي تجبر البلوطة على التحول إلى سنديانة، والمذنب إلى اتباع مداره».

لنترك إذن العقل للفلاسفة، ولكن ينبغي ألا نطلب منه ما لا يستطيع: أي أن يتداخل کثيرا في قيادة البشر وحكمهم، وبما أن الرأي العام هو نتيجة تفاعل العقل والشعور، وبتأليف الرأي العام يؤثر على سلوك الأفراد وسلوك الجماعة وسياسة الحكومة.

فالأفراد والجماعات والحكومات تعمل على الانسجام مع الرأي العام في كثير من القرارات والاتجاهات، ولذلك نجد مراكز استطلاع الرأي العام في كثير من دول العالم منتشرة، وتعمل جاهدة للتقصي والدراسة والتحليل في قضايا تَهُمّ المجتمع أو النخب السياسية أو حتى الأفراد، ويعمل الجميع على أن يتسق سلوكهم معه.

فالأفراد والجماعات يرغبون في أن يكونوا مثل الجميع، ولا يفضلون أن يظهروا وكأنهم خارجون عن الركب، وبالتالي تجد أن الحكومات تكون قراراتها منسجمة مع الرأي العام لأن ذلك يوفر لسياستها النجاح، مما يعمل على عدم إثارة القلاقل والاضطرابات في المجتمع. فكثير من الحكومات الغربية تطرح أي قضية تهمّ المجتمع إلى التصويت وإلى استطلاع الرأي العام، لتعرف مدى قبول المجتمع من رفضه، وهذه إستراتيجية تستخدم من أجل أن يكون الناخب ممثلا لصوت الشعب وصوت الجمهور، وبما أن الجمهور هو الهدف الذي يجب النظر إليه، فقد صنف دينيس هوويت ( Dennis Howitt 1982) الجمهور إلى نوعين: الجمهور العنيد، والجمهور الحساس.

يمكننا تصنيف نوع ثالث من الجمهور، وهو الجمهور اللا مبالي، والذي لا يقف موقفا معارضا مثل الجمهور العنيد، ولا قابلا مثل الجمهور الحساس، ولكنه يتعامل مع الرسائل التي تصل إليه بإهمال تام وبلا مبالاة، وهو جمهور غير معني بالرسالة، على عكس الجمهور العنيد الذي تهمّه الرسالة ولكنه لا يستجيب لها.

والجمهور اللا مبالي جمهورٌ سلبي يتلقى الرسالة بلا مبالاة ولا يعنيه مضمونها، وهنا تلعب العملية الانتقائية دورها في التأثير ورسم الإستراتيجية التي من أجلها يكون تغير الرأي.

فالجمهور العنيد لا يسلم تماما للرسائل التي تصله أو يكون الهدف منها تغييره، أو تحويل آرائه، وموقفه، واتجاهاته، وتسعى إلى السيطرة عليه. ذلك أن الرؤية هناك تفرض أن وسائل الإعلام ليست لها قوة إقناعية كبيرة، لتغيير عقول الناس ولعل الشعب البريطاني يعدّ من الشعوب التي نوعا ما يمكن تصنيفها بأنها جمهور عنيد بعكس الجمهور في أميركا، وبحسب الخبراء والباحثين في التأثير على الرأي العام فإن الجمهور العنيد عادة ما تكون هناك عوامل تحد من التأثير عليه منها: التعرض الانتقائي Selective Exposure، وهو يعني أن أفراد الجمهور يتعرضون للرسائل التي تعودوا عليها، وهم بذلك يتعرضون فقط لوجهات النظر التي تشبه وجهات نظرهم بشكل كبير.

والعامل الثاني: هو التصور «الإدراك» الانتقائي Selective Perception، وبينما التعرض التلقائي اختيار ما يشاهده المرء، أو ما يقرؤه، نجد أن التصوير الانتقائي هو اتجاه الفرد لتفسير ما يراه، أو يقرؤه، أو يسمعه، بطريقه يدعم بها وجهة نظره، ويرتبط بهذا ما يمكن أن نسميه بالتفسير الانتقائي Selective Interpretation للرسالة بناء على ما يراه، ويكون تفسيره انتقائيا تبعا لتصوره الانتقائي.

وأما العامل الثالث، فهو الاستدعاء والتذكر الانتقائيان Selective Retention & Recall، وهذا يعني اتجاه الفرد إلى استدعاء الأشياء وتذكرها بناء على أسس انتقادية، فالمرء يتذكر الأمور التي تتلاءم مع وجهة نظره، وفي هذه الحالة لا بد من إعادة الرسالة، وهندسة الرأي العام خلال العملية الانتقائية التي قام باختياره، لأن مثل هذا الجمهور عادة ما يكون مؤثرا على باقي الشرائح. فعقلية الجماهير تبين لنا إلى أي مدى يكون تأثير القوانين والمؤسسات ضعيفا على طبيعتها الغرائزية العنيفة.

كما وتبين لنا إلى أي مدي تبدو عاجزة عن تشكيل أي رأي شخصي، ما عدا الآراء التي لُقنت لها أو أُوحيت إليها من الآخرين. ولا يمكن للقواعد المشتقة من العدالة النظرية الصرفة أن تقودها. وحدها الانطباعات التي يمكن توليدها في روحها يمكنها أن تجذبها.