لا شك أن المرأة السعودية عانت فترة طويلة من التضييق والتهميش، بل وغيبت عنها كثير من الحقوق الأساسية التي منحها لها الإسلام، وهو أمر ذكره سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في لقائه الأخير مع شبكة CBS الأميركية الشهيرة. فالاعتراف بالمشكلة أول جرعة في العلاج، خاصة بعد أن تمت مؤخرا حلحلة بعض الموضوعات التي ظلت معلقة لفترة طويلة. فالمملكة العربية السعودية بدأت فعليا في إعادة جزء من هذه الحقوق إليها، وإن كان الطريق ما زال طويلا.

كل هذا جميل ولا غبار عليه، بل إن هذا ما دعونا إليه على صفحات الجرائد والمجلات منذ أن دخلنا عالم الكتابة، فالاحتفاء بالمرأة بعد أن غابت طويلا عن المشهد أمر إيجابي ولا شك. الإشكالية هي في كيف يكون هذا الاحتفاء؟

إن ما نشاهده اليوم على صفحات إعلامنا المطبوع أو شاشات إعلامنا الفضائي أقرب للابتذال والإسفاف منه إلى التكريم والإشادة. إذ يتم عمل «حفلة» بالمفهوم الشعبي على إنجازات نسائية متواضعة أو حتى وهمية. وبات من الطبيعي أن تتصدر صورة امرأة صدر صفحاتها الرئيسية حتى لو كان أكبر إنجازاتها أنها حضرت مناسبة عامة ما! كل ذلك لا يهم، فالرسالة التي تريد وسائل الإعلام هذه إيصالها هي ما يلي: «انظروا لدينا نسوة في هذا البلد! وهن يأكلن ويشربن ويخرجن من بيوتهن!» وكأننا -كنساء- لم نكن موجودات سابقا، وكأن تعليم المرأة لم يبدأ من جيل أمهاتنا، نحن الجيل الثالث من السعوديات، ولقد تقاعدت نسوة ذلك الجيل ومنهن المعلمة والطبيبة وأستاذة الجامعة وموظفة المصرف، وغيرها من المهن التي زاولتها المرأة السعودية منذ فترة ليست بالقصيرة.

نعم كانت -وما زالت- المرأة تعاني من فرص ورواتب وتمثيل أقل مقارنة بالرجل، لكن هذا لا يعني أنها كانت غائبة أو مغيبة تماما وهبطت من الفضاء فجأة!

بلغ الأمر ذروة فكاهته في يوم المرأة العالمي في الثامن من الشهري الميلادي الجاري (8 مارس 2018)، فإذ لم تبق وزارة ولا مؤسسة ولا محل تقريبا إلا وشارك في التهاني والتبريكات والمبالغة في الحديث عن المرأة، والثناء على دورها «الجديد» في خدمة المجتمع. لدرجة بات الموضوع مملّاً حتى للنساء أنفسهن، ولا أعرف كيف كانت يومها مشاعر الأخوة والزملاء من الجنس الخشن.

هل المطلوب إذاً الاستمرار في النهج القديم وتجاهل المرأة وحضورها وإنجازاتها؟

قطعاً لا، فهناك في العلوم والتعليم والفنون والثقافة والطب والرياضة والتقنية والأعمال الخيرية وريادة الأعمال وكل مجالات الحياة نسوة مدهشات ومميزات ورائدات ويستحققن كل حفاوة وتكريم. خاصة أنهن صاحبات إنجازات حقيقية ملموسة على أرض الواقع وليس في تغريدات ووسوم الشبكات الاجتماعية. وجل هؤلاء الآنسات والسيدات هن ممن لا يركضن وراء الأضواء والفلاشات، ولا يستخدمن الترويج الرخيص والوساطات لتسويق أنفسهن، وللبروز من خلال الفعاليات المختلفة. هؤلاء سيشعرن بقمة السعادة والامتنان حين يجدن اهتماما إعلاميا بهن وببضاعتها القيمة، ولن يترددن في مشاركتها ومشاركة تجاربهن الثرية مع الناس، وهؤلاء من يجب أن يكن قدوات تتطلع إليهن الشابات الطموحات.

والمردود الإيجابي من إبراز هذه الفئة من النساء سيمتد لنا نحن المشاهدين والقراء، فمن ناحية سنشعر -كنساء- بالفخر والاعتزاز كون مجتمعنا، رغم كل الصعوبات والتحديات قد استطاع أن يخرج لنا هذه الجواهر المتلألئة، ومن ناحية أخرى ستعرف الأجيال الجديدة من الشابات شكل الإنجازات الحقيقية التي يجدر بهن محاكاتها، بل والتفوق عليها، وأن تصبح الشهرة درجة إضافية يحصل عليه الناجح والمجتهد لا هدفا يسعى المرء إليه بكل طاقته دون أن يبذل مجهودا كافية أو يصنع منجزا حضاريا يبرره.

إن الاحتفاء بالمشاهير الجدد -رجالا ونساء- على حساب أصحاب المثل والقيم والرسائل السامية والإنجازات العظيمة، يولد نوعا من الإحباط لدى المبدعين الحقيقيين، إذ يشعرون بأنهم تائهون وسط كل هذا الضجيج من التفاهة، ويغدو كل ما يقومون به بلا معنى. خاصة وهم يشاهدون هذه الشخصيات الفقيرة في العلم والمعرفة والذكاء والثقافة، والتي أسهم الإعلام في نفخها، قد بدأت تحصد ثمن هذه الشهرة، لا سيما بين النساء. فبعض هؤلاء المشهورات بتن يحصلن على فرص عملية أو فرص للمشاركة في المحافل المحلية والدولية، نتيجة لأنهن بارزات ومعروفات إعلاميا، بينما يُغيب عنها من تستحقها فعلا.

نعيش اليوم في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث بإمكان أي شخص أن يصبح مشهورا في غمضة عين، ممكن ولد ما يشبه حمى الشهرة الجنونية التي لم تنج منها حتى الأجيال الأكبر سنا حاليا، فكيف الحال بالشباب اليافع والفتيات اليانعات؟ فصار الكل يريد أن يكون مشهورا، ولو على حساب القيم والمبادئ والأعراف، ووسائل الإعلام بشتى أنواعها باتت أشبه بمحطة وقود، تزودهم ببنزين رخيص يسهم في جعلهم يذهبون إلى مدى أبعد في هذه الحلقة المفرغة، حيث الاحتفاء باللا شيء يصبح هو الأساس.

نتطلع إلى بروز أكبر للمرأة في الإعلام كما على أرض الواقع، على ألا يكون ذلك على حسب الجودة والقيمة والمضمون. المرأة ليست طفلا قاصرا يفرح بكلمتين «حلوتين» مثل «أنت شاطر أو بطل أو كبير»، المرأة المتعلمة الواعية اليوم تعتقد بأنها ند للرجل في معترك المهن والحياة العامة، وتريد أن يتم التعامل معها ومع أخبارها بشكل لائق كشريكة أساسية في بناء الوطن، وليس كمخلوق فضائي مدلل هبط فجأة، والكل مأخوذ بقدرته على الأكل والشرب والمشي والكلام!

يجب أن تخضع الأخبار المتعلقة بالمرأة لنفس الميزان الذي تخضعه له أخبار الرجل، فهل كان سيتم إبراز هذا الإنجاز، أو نشر تلك القصة في الصفحة الأولى، فيما لو كان صاحبها رجلا لا امرأة؟

وفقط إن كان الجواب بنعم فيمكن المضي قدما في النشر أو البث، وإلا فسيظل الإعلام مسؤولا عن تكريس هذه الصورة الكاريكاتورية عن المرأة السعودية.