المتأمل في الحملات اليائسة الهادفة إلى رفض التغييرات الاجتماعية المتسارعة التي تشهدها بلادنا، يحاول إيجاد أسباب منطقية للتشنج التي تواجه به بعضُ الفئات والأفراد هذه التحولات، ولم أجدها تخرج عن سببين أو ثلاثة:

أحدها: سياسي حزبي غير بريء، له أهدافه المعلومة عند سابري أغوار خطابات التنظيمات السياسية السرية، والكلام حوله يطول؛ لأن أهداف مديريه الظاهرة مباينة لأهدافهم الخفية، ولأن المرفوض –عند أهل هذا السبب- قد يصبح مقبولاً ومحموداً في لمح البصر، إذا صارت المصلحة تتطلب قبوله وتزيينه وتعميمه واستخدامه، وليس القول في السبب السياسي الحزبي مجال هذا المقال.

والثاني: اجتماعي يتمثل في انضمام الأميين، وبعض الباحثين عن الشهرة، إلى قائمة الرافضين بحسن نية عند أغلبهم، وبسوء طوية عند قلة منهم، وهو سبب لا أعتدّ به؛ لأنه لا قيمة لرأي هاتين الفئتين، فأولاهما تابعة في الأحوال كلها، والأخرى يمكن أن تغير رأيها وتنضم إلى مؤيدي التحولات، إذا هي وجدت في ذلك الشهرة والتأييد.

والثالث: ثقافي بريء إلا من التكلس والتخلف والانغلاق والخوف من الجديد، وهو يتعلق بالعقل العربي الذي يرفض كل جديد لجدته، سواء أكان هذا الجديد من الأدوات الحياتية، أم من الممارسات الاجتماعية، أم من النصوص التنظيمية التي تؤدي إلى تغيير الممارسات، وإلى الانفتاح على العالم.

ولإيضاح السبب الثاني، يستحسن أن نستعرض – تاريخياً - نماذج مضحكة من المرفوضات التي لا تُصدّق، فمن مثيرات الدهشة أن يعلم أحدنا أن كثيراً من عناصر حياتنا المعاصرة، وكثيراً من المخترعات الحديثة، قوبلت عند ظهورها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية برفض شديد يصل إلى حدود التحريم والتجريم والتكفير أيضا؛ وذلك يعني أن الرفض في البدايات، لا يعدو أن يكون رفضاً للجديد لجدته، وليس لعلّة حقيقية فيه، ومرد ذلك إلى ثقافة الحذر والتوجس التي تسم العقل الجمعي العربي الإسلامي عبر العصور كلها، وإلى خلل في منهج الفقيه الذي يحرّم المستجدات النافعات؛ لأنها –عنده- بدعة جديدة لم يعرفها السلف، فيلغي بذلك الاعتقاد بأن مصلحة العباد والبلاد هي جوهر الشريعة، ومدار الاجتهاد الفقهي، وذلك ما أفهمه من مصطلح «فقه الواقع» الذي يتحتم أن يساير الحياة المعاصرة مسايرةً مؤصّلة قائمة على فهم الواقع، وعلى المعرفة بالعلوم الأخرى واحترامها وأهلها، دون أن تكون هذه المسايرة مطلقة تقفز على المحرمات أصالة.

ومما يدل على أن الرفض ليس لعلة ظاهرة في المرفوض، وإنما هو رفض للجديد لأنه جديد، أنه لم يقف عند حدود رفض المذياع، والتلفزيون، وأطباق استقبال البث الفضائي، والتصوير الفوتوغرافي، ووسائط الاتصالات السلكية واللاسلكية كالمبرقات، وغيرها مما يرى الفقهاء التقليديون، ومعهم تابعوهم المحافظون، أنها وسائل شيطانية، وأبواب فساد وانحلال، بل تجاوزه إلى رفض بعض الأطعمة والأشربة والأدوية والثمار الجديدة رفضاً يصل إلى التحريم والتشنيع والتجريم.

ومن ذلك رفض القهوة والتشنيع على شاربيها بحجة أنها مفسدة للعقل والجسم، وأن خطرها لا يقل عن خطر الخمر، إذ يذكر بعض المؤرخين أن أحد حكام مكة المكرمة في العهد المملوكي، استصدر فتوى بتحريم شرب القهوة، وتجريم شاربيها، وأمر بإغلاق المقاهي في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم انتقلت الفكرة/ العدوى إلى حكام الدولة العثمانية الذين منعوا شرب القهوة، وأمروا العساكر بمطاردة شاربيها، ولم تصبح القهوة حلالاً إلا في عهد السلطان مراد الثالث، ومثله رفض ركوب الدراجات الهوائية (حصان إبليس) في بعض جهات نجد بدعوى أن الجن هو مسيرها، ووصل الأمر – كما تقول بعض المصادر - إلى حدود عدم قبول شهادة من يركب الدراجة، والأغرب رفض التطعيم ضد شلل الأطفال في باكستان وأفغانستان رفضا يستند على تحريمه بذريعة أنه لقاح غربي يستهدف قطع نسل المسلمين، والأكثر غرابة رفض استخدام الصنبور رفضاً، وصل إلى حدوث جدل فقهي في مصر، حول جواز الوضوء من مياه الصنبور من عدمه، وحينها أفتى الحنابلة بأن مياه الصنابير بدعة ولا تصلح للوضوء، وتردد الشوافع في إباحة الوضوء بمياه الصنبور لحاجة الموضوع إلى بحث طويل، فيما أفتى الأحناف بجواز الوضوء بها، ولذا يسمي المصريون الصنبور: (الحنفية) نسبة إلى الأحناف، وتصل الدهشة ذروتها حين نعلم أن قراءة الصحف والمجلات كانت محرمة في العراق والكويت وبعض مناطق شرق المملكة، وقد وصل تحريمها –كما يذكر المؤرخون– إلى حدود تكفير قارئيها؛ لأنها تحتوي على حقائق علمية مرفوضة كالقول بدوران الأرض حول الشمس، والتأكيد على أن الأمصال الطبية أكثر نفعاً للمرضى من تعاويذ الرقاة والمعالجين الشعبيين.

من البدهيات أن تاريخ النهوض البشري كله قائم على التضاد مع صناعة الظلام، وعلى تجاوز ممانعات القوى التقليدية على اختلاف مرجعياتها، وأن خضوع التاريخ –مؤقتا- لصنّاع الظلام يعني التخلف بصوره المادية والفكرية كلها، ويعني توقف أسباب النهوض، ويعني عودة الركب الحضاري إلى الوراء، ولنا في أوروبا العصور الوسطى عبرة تجعلنا نجتنب نقل تاريخ العصور المظلمة إلينا، كما أن لنا في أوروبا ما بعد القرن الثامن عشر أنموذجاً جاهزا للاحتذاء.

ومن البدهيات أيضا، أن التاريخ يحتاج إلى قادة شجعان، وإلى شعوب واعية تدفعه نحو الأمام، وعندها يصير التاريخ المدعوم بالأقوياء الواعين كالسيل، يسير في مجراه دون أن توقفه المعوقات الهشة، فيجرف كل من/ ما يقف في طريقه، بلا التفات أو تردد أو توقف، وهذا ما كان مع النماذج الرفضية المضحكة السابقة التي باتت جزءاً من الماضي، وتحولت إلى فقراتٍ في كتب نوادر التاريخ، وسيأتي يومٌ تصير فيه حجج رافضي التحولات السعودية الجريئة مدعاة للتندر والتفكّه والاستغراب، بوصفها مزاعم وتلفيقات لها أكثر من سبب، ليس منها الحرص على تقدم الوطن بوصفه وطناً ذا هوية معلومة، وحدود معروفة، ومؤسسات قائمة، وبوصفها مزاعم لا تتجاوز أن تكون خروجاً على الأنساق الطبيعية، ومحاولات لإيقاف سيرورة التاريخ الذي لا يقف عند عصر؛ لأنه – ببساطة- لن يصير تاريخاً إذا توقف.