تُعدّ السعودية أكبر دولة منتجة للنفط لعقود، وعلى الرغم من أن تاريخنا النفطي يمتد لنحو 85 عاما منذ اكتشافه، لم تنشأ صناعة بحثية وإعلامية نفطية ذات طابع مؤسسي توازي حجم صناعتنا البترولية، اكتشافا وحفرا وإنتاجا ونقلا وتكريرا وتحويلا، بل إن مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية «كابسارك» لم يفتتح إلا بعد 80 عاما من اكتشاف البترول في حقل الدمام، والمجلتان اللتان تصدرهما أرامكو «القافلة والخفجي» مع تاريخهما الثقافي، كانتا بعيدتين عن تعزيز فهم اقتصاديات الطاقة، وتشكيل جيل من دارسي ومحللي وإعلاميي الطاقة، ولذلك اختلط حابل المحللين بنابل المترجمين والإعلاميين، فلا تستطيع أن تفرز بسهولة بين المحلل والمختص الحقيقي والعليمي، وأسهمت إدارات أرامكو في ذلك أيضا، بانكفائها على الداخل وانفتاحها على الخارج.

فإذا أردنا أن نعرف ماذا في الظهران، علينا أن نعرف ماذا في فيينا، وأصبح محللو الطاقة وخبراؤها -مع استثناء القلة الواعية والبصيرة- مثل موجات الطفرة، يظهرون مع الأحداث، ففي أيام القاعدة ظهر لدينا خبراء القاعدة والإرهاب، ثم خبراء في شؤون المرأة، ومع العاصفة ظهر بعض المحللين العسكريين الذين لا يرون أبعد من أرنبة الأنف.

وبسبب هذا الخلط أصبحت الحقائق جدلية، ومستقبل النفط لدينا يطرح كأنه موضوع تعليق الدراسة لدى طلاب المدارس.

ومع بدء مرحلة الخروج من إدمان النفط في ميزانياتنا، بدأ البعض يطرح فكرة انحسار دور النفط في الحياة العامة، بدخول الطاقة البديلة وتأثير النفط الصخري على الأحفوري، بل والحديث عن نضوب النفط طويل العمر، وأن المستقبل مظلم، وسنعود إلى عصر الخيام، فأين السعودية وسط كل هذا الضجيج في العقود القادمة؟.

خارطة الطاقة والدخل التي سأذكرها ليست تحليلا أو نظريات، وإنما هي مجموعة من الحقائق التي يتكئ عليها المحللون والدارسون والاقتصاديون، وهي معلومة لدى المختصين على أنها منطلقات وليست نتائج.

أصيبت الدول النفطية بعجز كبير في ميزانياتها مع انهيار أسعار النفط في 2014، وغرق العالم بفائض إنتاج البترول، وتخلخلت علاقات الاستيراد والتصدير التقليدية، حتى وصل الأمر إلى أن ينخفض استيراد أميركا من النفط من 2.24 مليون برميل يوميا في 2003 إلى أقل من مليون في 2017، وجاءت الرؤية لتقلل من اعتماد الميزانية على الدخل البترولي إلى النصف، وصولا إلى تحقيق التوازن المالي في 2023، ورسمت السياسة على هذا الاتجاه اعتمادا على تسعير البترول بـ55 دولارا، هذا ما يقوله لنا النظر بعين النفط فقط، ولكن النظر بالعينين يعطينا بانوراما واسعة عن إجمالي الناتج المحلي القادم.

يعلم الجميع أن السعودية تملك احتياطات نفطية ضخمة، وحين ينضب بترول الصين بعد سنوات وبترول روسيا الأكبر كمية بين 12 – 15 عاما وبئر النفط الصخري الواحد الذي لا يعمر لأكثر من سنوات قليلة، فإن الطلب وقتها على النفط سيزداد ويرتفع السعر إلى 90 دولارا في 2019، لكن إلى متى يعتمد العالم على النفط؟.

شاهدنا في أوروبا وأميركا سيارات تيسلا الكهربائية، ومحطات التزويد بالكهرباء، وبحسب بعض خبراء تيسلا الذين قابلناهم في واشنطن، فإن الاعتماد على النفط سينتهي بحلول عام 2040، والمتشائمون يتقدمون بها إلى 2030، وقبل أحد هذين التاريخين سينضب النفط من دول كثيرة، وتبقى السعودية هي اللاعب الرئيسي، وحتى في حال انتهاء الاعتماد على النفط، فإن صناعة البتروكيماويات التي نعمل عليها جعلت السعودية تمثل عمق الاستثمار العالمي فيها، من خلال سابك وصدارة، ثم تأتي الثروة المعدنية حيث إن الموارد والاحتياطات المعدنية هي الأضخم في الشرق الأوسط، ولم يستثمر منها إلا أقل القليل، وفتح المجال للاستثمار فيها أمام الشركات العالمية لا يكلف الدولة شيئا، وإنما يضيف في مجالي الإنتاج والتوظيف، ثم الدخل المالي. وهناك أيضا حقول الغاز المكتشفة في البحر الأحمر وغيره، التي لم يبدأ الإنتاج فيها بعد، وأخيرا وليس آخرا مشروع الطاقة الشمسية الذي سيجعل السعودية من أكبر مصنعي ومصدري الطاقة الشمسية في العالم، معتمدة على رمال السيلكا النقية المتوافرة بكثرة في السعودية، لتتصدر العالم بإنتاج 200 جيجاواط مع سوفت بنك، لتتجاوز الصين المتصدرة حاليا «120 ج و»، واليابان «43 ج و» ثم الولايات المتحدة بربع المستهدف في السعودية، وتعوض معها السعودية داخليا حرق النفط الغالي الذي سيرتفع أكثر بكهرباء نفطية رخيصة الثمن.

أما العين الثالثة بزيادة المحتوى المحلي في الصناعة والسياحة والترفيه والأسواق المالية والاكتتابات، فتلك قصة إدهاش مختلفة.