الترفيه من المصطلحات التي سعت الأيديولوجيا إلى تشويهها، فبعد أن كانت كلمة إيجابية تحمل في داخلها عناصر تتقاطع كثيرا مع الثقافة، استُخدمت لتترادف مع العبث واللهو والفراغ. فقبل أربعة عقود كان المسرح والفن والموسيقى والغناء والسينما جزءا من المكونات الثقافية والترفيهية في المدن، وكانت الحياة تسير بشكل طبيعي، كما كان المجتمع ينمو ويتطور بشكل متوازن، اجتماعيا وثقافيا وحضاريا وماديا وبشريا.

فالتنافس في المسرح بالمدارس منذ المرحلة الابتدائية إلى الثانوية في التعليم على أشده، والمسرح الجامعي كان يقدم مواهب وتجارب وأعمالا جميلة، إلى جانب فروع جمعية الثقافة والفنون، والمراكز الصيفية في المدارس الكبرى في المدن كانت تقدم فقرات خطابية ومسرحية وموسيقية وغنائية، لم يعترض عليها أحد أو ينكرها منكر، وعندما اختطف الفكر الإخواني وزارة المعارف آنذاك، تم إبعاد كل القائمين على النشاطات في إدارات التعليم وحلّ محلهم صحويون كرّسوا للمخيمات والمراكز التي شارك فيها طلاب أبرياء، ومعلمون صادقون متحمسون، وتم استغلال بعضهم من قِبل الصحويين لتفريخ ثقافة العنف والإقصاء والتكفير، واختفى المسرح الجامعي وتغيرت أسماء مسارح إدارات التعليم الكبيرة والجامعات، وسميت بقاعات المحاضرات، وحوربت الحفلات الفنية في التلفزيون المعروفة باسم مسرح التلفزيون الذي أخرج نجوما فنية كبيرة.

كما حوربت الحفلات الفنية التي كان يحييها الفنانون والفنانات في الحفلات العامة التي كان يقيمها الأهالي، بإشراف عمد الأحياء أيام الأعياد والمهرجانات، أو الحفلات الخاصة في الزواجات في الشوارع أمام بيوت الناس، أو الحفلات الفنية التي كان يغني فيها الفنانون والفنانات في بعض بساتين الطائف المشهورة آنذاك، كما كانت تقام الحفلات الفنية في جدة وأحياء مكة المكرمة القديمة والقريبة من الحرم الشريف، وأصبحت الآن جزءا من الساحات المؤدية إليه، وكان هناك علماء أعلام من مختلف المذاهب لم ينكروا عليهم أو يكسروا آلاتهم، ولا ساقوا الناس في الجمسات كالمجرمين، ولا يستطيع أن يزكي من جاء بعدهم من السروريين بأنهم أكثر منهم علما وتقوى، أو أقرب من عند النبوة، فجاء الصحويون وحاربوا كل ذلك، واضطرت جمعيات الثقافة والفنون إلى إلغاء قسم الموسيقى فيها، والاكتفاء بقسم الفنون الشعبية.

أما السينما، فكان هناك عرض سينمائي رسمي يقدّمه نادي الضباط التابع لوزارة الدفاع بالقشلة العسكرية، يحضره العسكريون والدخول للأهالي بريال واحد، كما يستأجر الأهالي ماكينة عرض الأفلام 16 ملم وبكرات أحدث الأفلام المصرية والهندية والغربية المنتجة آنذاك، لعرضها في بيوتهم ومناسباتهم وفي حفلات الزفاف، وفي المدارس التي سمح وزير المعارف آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ للأهالي بإقامتها في المدارس في عطلات نهاية الأسبوع، ثم صارت تعرض السينما تجاريا بشكل بدائي في صالات الأندية الرياضية، كما قام بعض الأشخاص بعرض الأفلام للعامة في ساحات بيوتهم أو أحواش استأجروها، وصلت إلى أكثر من 11 محلا لعرض الأفلام السينمائية، وانتشرت هذه الظاهرة في السبعينات الميلادية بعلم أجهزة الأمن، وتفاهم غير مكتوب مع الهيئة آنذاك. كل هذه أمور عاصرناها وعشناها وشاركنا في كثير منها، وربما سأعود لكتابتها بتفاصيلها.

وعندما بدأت الصحوة تُحكِم مخالبها في مفاصل المجتمع، انكفأ الناس إلى بيوتهم ومجالسهم الخاصة، وبدأنا نعيش مرحلة النفاق الاجتماعي، وانقسم المجتمع إلى وجه ظاهري متصنع ووجه آخر يعيشه الناس بطبيعتهم، وبدأت فترة الفيديو بمراحل الكاتردج والبيتاماكس وVHS، حيث تجد إمام جامع يحرّمها وابنه لديه محل كبير يؤجرها ويبيعها، وبعدها فترة الأطباق حين تجد الدشوش تصنع محليا وتستورد وتباع في العلن، ويتم تركيبها في السرّ، ومع أن محلاتها منتشرة لا يجرؤ أحد على بيعها بفاتورة، وهناك من يركّبها في بيته ويخرج مع بعض المحتسبين ليضغط على أصحاب البيوت بإزالتها.

وفوق هذا النفاق المجتمعي كانت تتم بشكل عشوائي وغير منظم، تختلط فيه العمالة في الطفرة الأولى بالأطفال والمراهقين، والصاحون بالسكارى، والأفلام غير مراقبة، وإذا صاح الناس أثناء العرض وضع مشغّل الفيلم يده على العدسة وسط العبارات البذيئة ورمي أعقاب السجائر على الشاشة.

كل هذا كان يتم بغضٍّ من المسؤولين وتوافق مجتمعي عليه، مع إقبال أو إنكار طبيعيين وفي إطاره المقبول، على الرغم من الفوضى والمخاطر التي تكتنفه، وعندما تأتي الدولة الآن لتنظم كل ذلك وفق لوائحها وتنظيماتها واشتراطاتها الأخلاقية والحضارية وإجراءات السلامة، وتعقد اتفاقيات مع أكثر الشركات تقدما وخبرة وتنظيما، يأتي أشخاص يمجّدون دولا يباع فيها الخمر جهارا، ويُرخَّص للدعارة فيها رسميا، ويصوروننا بأننا قد ارتكبنا كبيرة من الكبائر، ويتلقف ذلك أناس متحمسون صادقون مشفقون، يحملون كثيرا من النوايا الطيبة وقليلا من فقه الواقع والنوازل، وينصّبون أنفسهم موقعين عن رب العالمين، بينما لو نظرنا إلى الأمور في سياقها الصحيح لوجدنا أن الترفيه لدينا في خطواته الأخيرة، لم يوجد العجلة من عدم ولا أعاد اختراعها، وإنما حوّلها من عجلات عربة فلنستون الحجرية إلى عصر مسارات الهايبرلوب، وأزال عنا أقنعة النفاق الاجتماعي لنعيش حياتنا الطبيعية كغيرنا من الدول العربية والإسلامية.