شاركتُ كما شارك غيري في «مؤتمر الصحوة: دراسات في المفهوم والإشكالات» الذي أقامته جامعة القصيم، وقد ذكرت فيه: أن لفظ «الصحوة» كما قال شيخنا صالح الفوزان اصطلاح حادث، له لوازم باطلة، وأن النصارى - كما قال الشيخ بكر أبو زيد - هم الذين أحدثوا مصطلح الصحوة واستعملوه في القرن الخامس عشر الهجري في كنيستهم، وكذلك هو من مصطلحات الصوفية، ومن أقوالهم: «الصحوة: رجوع إلى الإحسان بعد الغيبة بوارد قوي»، وأطلقه الخميني كذلك بعد إسقاط الشاة، فانخدع بهذا الشعار كثير من الناس، وأما استخدام لفظة «الصحوة» من بعض الفضلاء كالملك فهد رحمه الله، وشيخنا ابن عثيمين رحمه الله، فإنهما إنما أرادا بها النشاط في التمسك بالإسلام، ولم يريدا قط الصحوة الحركية الحزبية، فهما رحمهما الله من أوائل من عانا من انحرافاتها، وقد ذكرتُ في ورقتي في المؤتمر أن الصحوة الحركية مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في مسائل منها:

أولا: إنها تخالف منهج أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء، فالموالاة عندهم لمن وافقهم، والمعاداة عندهم لمن خالفهم، بينما معتقد أهل السنة والجماعة أن الولاء والبراء على دين الله ورسوله لا على الأهواء والأحزاب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أهل الأهواء والأحزاب: «يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله. ويذموا من لم يذمه الله ورسوله. وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله».

ثانيا: التوجس من الدولة، فما سلكت الدولة فجاً إلا سلك كثير منهم فجا غير فجها، ولهذا يكثرون الاعتراضات والظنون السيئة والجَلَبَة على كل قرار، ولو كان قراراً إداريا كدمج الرئاسة مع التعليم، وكل إنجازات كبرى للدولة لا يشيدون بها، وبعضهم يشكك بها، فيقول: إنها لذر الرماد في العيون، وسبب ذلك في نظري: هو ما ذكرته في كلمتي التي نشرت في صحيفة جامعة القصيم قبيل المؤتمر، وخلاصته: اجترار واقع الجماعات الحزبية خارج الحدود، الذين صادموا حكامهم، وتعرضوا للسجون والمعتقلات والتعذيب، واجترار أيضا ما كتبه أولئك من رسائل ضد حكامهم، ووصفهم بالطغاة، وأناشيد تحكي التعذيب والمعتقلات، نقلوا ذلك لشباب الصحوة في بلادنا، فصارت تقرأ تلك الكتب والرسائل، على كثير من شباب الصحوة، فولدت نفسيات متوترة ومناوئة عند كثير من شباب الصحوة، وصار الصادق عندهم هو من يكره الدولة، ولا يقترب منها، إلا إن كان قربه لتحسين صورة الصحوة عند الدولة، وتمكين أتباعها.

وهكذا فاجترار بعض اللبراليين لواقع تدينهم الصحوي السابق، عندما كانوا من أقطابه، وتطبيقه على تدين الناس الذين على الفطرة والسنة، جعلهم يسيئون الظن بكل متدين مستقيم، وهذا يفسر سبب حدتهم وسلاطة ألسنتهم، وانتقال «بعضهم» من الغلو إلى الانفلات، وتنقص أحكام الشريعة، وإذا كانت جامعة القصيم قامت مشكورة بهذا المؤتمر عن الصحوة، فإني أرجو أن يوفق الله إحدى الجامعات لتقيم مؤتمرا آخر لمعالجة جناية العلمنة واللبرلة على العقيدة والوطن، فبلادنا السعودية ولله الحمد قامت على التوحيد والسنة، وليست بحاجة إلى حزبيات وتيارات، فهي دولة إسلامية لا صحوية إخوانية، ولا لبرالية علمانية، ذلك أن وجود تلك الأحزاب والتيارات خطر على الأمن وراحة الناس ودينهم، وقد قال الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله: «إن هذه البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة. وإني أحذر الجميع من نزغات الشياطين والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار...»، وقال الملك سلمان حفظه الله: «لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالا ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال...»، وقال الأمير خالد الفيصل حفظه الله: «أيها الإخوة والأخوات إلى متى نبقى أسرى معادلة عقيمة: إما التكفير وإما التغريب... كفَّر المستشيخون علماءنا، وسفَّه المستغربون خطابنا...»، وقال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله: «إن مشروع الصحوة انتشر في المنطقة بعد العام 1979 لأسباب كثيرة، فلم نكن بهذا الشكل في السابق، نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه...»، فالصحوة طارئة على مجتمعنا، ولسنا بحاجة لها، وكذلك اللبرلة والعلمنة لم تكونا موجودتين سابقا، ولسنا بحاجة لهما، ونحن كما قال ولي العهد حفظه الله: «فقط نعود إلى ما كنا عليه»، أي: بدون الصحوة واللبرلة.

والمرجو من الجميع أن يسلكوا طريق الاعتدال والوسطية، فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو في الدين، ولا انفلات عنه، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وضابط الوسطية هو: ما جاء في الكتاب والسنة، ولم يخالفهما، والناظر في أقوال أهل اللبرلة يلحظ شدة انحرافهم عن الوسطية، ووقوعهم في التطرف المضاد، ومن ذلك ما يوجد من الغيظ لديهم على علماء أهل الإسلام وعلومهم، وسأكتفي بذكر مثال واحد فقط، وإلا فالأمثلة كثيرة جدا، يقول أحدهم: (ما لم نعلن القطيعة مع ابن تيمية وجماعته، كما أعلن الغرب قطيعته مع القديس أوغسطين وجماعته، فنحن في بحر الضياع غارقون)، فيا سبحان الله، ماذا ينقم على ابن تيمية؟ ومن هم جماعة ابن تيمية الذين يُطالِب بقطيعتهم؟ وما سبب هذا التشنج والعدوان؟ ألا يعلم أن قادة هذه البلاد بذلوا جهداً كبيرا في حفظ علم هذا العالم الرباني، وطبعوه على نفقتهم، فكان ذلك من حسناتهم العظيمة، ولكن اللبراليين يجعلون الحسنات سيئات؟

وقديما قال ابن مُرِّي ت 728 هـ لتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: «والله – إن شاء الله – ليقيمن الله سبحانه لنصر علم شيخ الإسلام ونشره وتدوينه وتفهمه واستخراج مقاصده واستحسان غرائبه وعجائبه رجالاً هم الآن في أصلاب آبائهم»، وقد بَرَّت يمين ابن مُرِّي بعد ستة قرون، فقام الشيخ عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد بهذه المهمة التي استغرقت أكثر من أربعين عاما، «من عام 1340 إلى 1386» وقد صدر أمر الملك سعود ثم الملك فيصل رحمهما الله بدعم ابن قاسم لجمع وطبع علوم شيخ الإسلام، وتمت طباعة ثلاثين مجلداً في الرياض، ثم تم إتمام المجلدات الخمسة في مكة، ثم صدر الأمر الملكي بتفويض رئاسة البحوث والإفتاء حق طباعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه، ولكن اللبراليين كالصحويين يسعون للتشكيك وسوء الظنون في قرارات الدولة، فإن قيل: هناك من يسيء فهم كلام شيخ الإسلام من الغلاة، قلنا: وهناك أيضا من يسيء فهم كلام الله ورسوله من الغلاة، مع أن كلام الله ورسوله معصوم، ليس ككلام العلماء وأئمة الدين، فهل معنى هذا أن نقاطعهما؟ إن علاج سوء الفهم يكون بدراسة العلم على أيدي الراسخين فيه، ويكون باتباع منهج أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال، لا بالقطيعة ونسف علوم أهل الإسلام.