عند كتابة أي موضوع يهم المجتمع أو مؤسسات المجتمع بجميع مساراته وتخصصاته، لا بد من التطرق إلى الجانب التاريخي، وما يقوله الحكماء والمفكرون وأصحاب الرأي وأهل الخبرة في المجالات التي نريد تناولها.

ولعلي في هذا المقال الذي يدور حول مراكز الدراسات الاستشرافية وأهميتها لأي مجتمع، أستشهد بمقولة آنشتاين صاحب العبقرية الفريدة، عندما حاول تبرير اهتمامه بالمستقبل بكلمات قليلة، لكنها موحية، وذات مغزى إستراتيجي.

فعندما سئل عن سبب اهتمامه بالمستقبل؟ أجاب ببساطة: لأنني ذاهب إلى هناك!

قد لا تكون الإجابة كافية ومقنعة، لشخص عادي، فكلنا ذاهبون إلى المستقبل، وكلنا سنقضي -كما قال كيترنج- جزءا من حياتنا فيه!.

لكن، طبقا لأية شروط، وعلى أية كيفية؟ وماذا سنفعل هناك؟ وهل سيسير هذا المستقبل لمصالحنا؟ وهل لهذا العلم أهمية في اختيار المستقبل الذي نريده، ومعرفة دهاليزه، فالعمل دون أهداف لا قيمة ومعنى له، والاستباق والاستشراف يولّد العمل، فالمستقبل الذي لا نصنعه بأيدينا وأفكارنا وأبنائنا، سيصنعه غيرنا لنا، وسيعتمدون على الدراسات التي تجيب عن هذه التساؤلات المتراكمة في أذهاننا، لأنها تعدّ بمثابة خلاصة الأفكار والتجارب والفرص والتحديات لصانع القرار.

فالمجتمع وصناع القرار بحاجة إلى فهم السناريوهات المستقبلية لجميع المجالات المحتملة في المجتمع، وذلك لبناء الخطط والإستراتيجيات المبنية على هذه الأسس، فقد رصد إدوارد كورنيش -وهو مؤسس جمعية المستقبل العالمية، ورئيس تحريرها في المجلة الرئيسية، THE FUTURIST في مطلع السبعينات- تغيّريْن مهميْن في نظرة المجتمع إلى المستقبل، متمثلة في أن الجماهير وعامة الناس أصبحوا على قناعة بإمكان دراسة المستقبل من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والرأي العام، وغيرها، وأيضا الاعتراف بأن المستقبل عالم قابل للتشكيل والتغير، فليس هناك عمل صعب ومستحيل، فإن لم يكن بأيدينا، حتما بأيدي غيرنا.

كما أسلفت، فالمجتمع وصناع القرار دائمو التفكير في المستقبل، ويعملون للمستقبل، فإن لم يكن لهم فللأجيال القادمة، ولأن Think Tanks المهتمة بالدراسات والمشورة المتخصصة باستشراف المستقبل، هي بمثابة المستشار الأمين لكثير من القرارات، خاصة إذا ما بُني على منهجية علمية دقيقة.

فالولايات المتحدة الأميركية -على سبيل المثال- من بين الدول التي اهتمت بمراكز الدراسات بشكل عام، والدراسات المستقبلية على وجه الخصوص، إذ أسهمت في تعميق مفهوم المستقبلية في العقول، وأضحت دراسات المستقبل صناعة أكاديمية، ونشاطا علميا قائما بذاته، ومنهجا عمليا للإدارة والتخطيط.

وقد اتخذ هذا الاهتمام عددا من المؤشرات، أهمها: تزايد أعداد العلماء والباحثين المشتغلين بهذا الحقل في الجامعات ومراكز البحوث المختلفة، وانتشار الجمعيات والروابط والمنظّمات المعنية بالمستقبل، مثل رابطة المستقبلات الدولية التي أسسها العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل «Bertrand de Jouvenel»، فمراكز الدراسات المستقبلية والعمل بمقتضى نتائجها أصبح ضرورة لكل المجتمعات على اختلاف درجاتها في مضمار التقدم، ويمكن أن نذكر أهمية هذه الدراسات بناء على ما ذكرته الدراسات نفسها في مجالات الحياة المختلفة، منها: أن الدراسات المستقبلية تحاول أن ترسم رؤية للمستقبل خلال استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والاتجاهات المحتمل ظهورها في المستقبل والأحداث المفاجئة «Driving Forces»، والقوى والفواعل الديناميكية المحركة للأحداث وبلورة الخيارات الممكنة والمتاحة، وترشيد عمليات المفاضلة بينها، وذلك بإخضاع كل خيار منها للدراسة والفحص، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات.

كما أن هذه الدراسات المستقبلية تساعد على التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها، ومعرفة السيناريوهات المحتملة، والتهيؤ لمواجهتها، وتعدّ رؤية 2030 الطموحة وطرحها لحلول مصادر الطاقة التي تعتمد عليها المملكة، أكبر دليل على أهمية هذا الأسلوب التجريبي والنسق العلمي المخطط له.

فوجود مثل هذه المراكز بات ضرورة حتمية لكثير من مؤسسات المجتمع لصنع الخطط والإستراتيجيات.

فجميع دول العالم المتقدمة تعتمد على النتائج والدراسات في كثير من قراراتها، وعلى خبراء في هذا المجال في جميع المسارات: الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية. كما أن دعم مثل هذه المراكز له نتائج عظيمة، ولا أقصد هنا الدعم المالي فقط، بل الدعم بالخبرات الأكاديمية والميدانية، ونقل التجارب وتوطين الأفكار الرائدة.