تطلعات كبيرة ينتظرها المجتمع السعودي من مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، خلال الفترة المقبلة، بعد التوجيهات الأخيرة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، والأمر الملكي الكريم بإعادة تكوين مجلس أمناء المركز، واستقباله لأعضاء المجلس، وتوجيهاته الواضحة رعاه الله بتفعيل العمل خلال المرحلة المقبلة، وملاحظاته الثاقبة عن سير العمل خلال السنوات الماضية، والتي كانت بمثابة خريطة عمل واضحة المعالم، ومكتملة الرؤى، لما ينبغي أن يكون عليه نهج المركز، وهو ما يضع أعضاء مجلس أمناء المركز أمام تحدٍ كبير، أثق تماما أنهم على قدره، ومؤهلون للقيام به.

ومن الإنصاف القول إن انطباع البعض وسط المجتمع على ما قدمه المركز خلال السنوات الماضية من عمره ليس مشجعا، حيث يرون أن اللقاءات التي قام بها، والندوات التي عقدها، وورش العمل التي نظمها، لم تتعدّ كونها حوارا بين النخبة، وأن المفاعيل على الواقع لم تكن واضحة المعالم، وأن المجتمع لم ير أي أثر فعلي ملموس على أرض الواقع. وليس دفاعا عن المركز القول إنه نظرا لأن إنشاء المركز كان حدثا جديدا على المجتمع السعودي، وتجربة استثنائية فريدة، فإن تضاؤل النتائج والمخرجات لم يكن مفاجئا. كما أن طبيعة عمل المركز وصلاحياته كانتا تفتقران إلى أي سلطة أو صلاحيات تنفيذية. إلا أن تلك المسوِّغات لن تكون مقبولة خلال الفترة المقبلة، لاسيما بعد الزخم الإعلامي القوي الذي منحته كلمات الملك للمركز، ومطالبته بالتركيز وتكثيف العمل، مما يمثل دعما كبيرا، ويؤكد الرغبة الملكية الواضحة في إعادة المركز إلى الواجهة من جديد، وهو ما يعطي القائمين عليه الفرصة في أن تكون لمخرجات أعمالهم نتائج ملموسة على الحياة اليومية للشعب السعودي، وبما يسهم في ترسيخ مبادئ الحوار والوسطية والاعتدال وتعزيز قيم التلاحم الوطني والتعايش المجتمعي.

وليس غريبا القول إن المرحلة الحالية التي تعيشها بلادنا مختلفة كل الاختلاف عما سبقها، وإن المجتمع السعودي أثبت رغبة كبيرة في التحاور مع الآخر، والانفتاح على العالم الخارجي، والتعاطي الإيجابي مع العالم كله، وهو ما أكدت عليه القيادة الكريمة في أكثر من مناسبة، وأوضحته الجهود التي قام بها ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان في زياراته الأخيرة إلى مصر وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، وتأكيده على أهمية وحتمية الاعتدال، والتعايش بين المسلمين وأتباع الأديان الأخرى. إضافة إلى الجهود التي بذلتها رابطة العالم الإسلامي، وتتمثل في زيارة أمينها العام الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى للفاتيكان، ولقائه البابا، وعقدها مؤتمر «التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم الإسلامي» في سبتمبر من العام الماضي، وليس آخرا في هذا الإطار زيارة رئيس المجلس البابوي للحوار بين أتباع الأديان في الفاتيكان، الكاردينال جان لويس توران، إلى الرياض، ولقائه خادم الحرمين الشريفين.

لقد شرف الله هذه البلاد بخدمة المقدسات الإسلامية، ولقد بذلت قيادة المملكة الغالي والنفيس لخدمة ضيوف الرحمن من كل الطوائف الإسلامية دون تمييز، كما اعتمدت المواطنة الصالحة أساسا للتعامل، دون النظر لأي اعتبارات مناطقية أو مذهبية، وتعطي كل ذي حق حقه، وهذه كلها قواسم مشتركة، تجمعنا ولا تفرقنا، وتعصمنا من الزلل، وتبعدنا عن الفرقة والتشتت. فإذا كان هناك متشددون من الداخل والخارج، يعملون على بث عوامل الفرقة وإذكاء نيران الاختلاف والتنازع، فعليهم أن يعلموا أن توجه الدولة نحو إقرار الحوار الوطني هو ضمانة لبقاء هذه البلاد موحدة وعزيزة ومتلاحمة اجتماعيا، لتظل واحة للأمن والسلام والاستقرار، كما أراد لها مؤسسها المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز آل سعود.

خلال الأسبوع الماضي تشرفت بحضور افتتاح فرع مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني بمنطقة نجران، بحضور أمير المنطقة ونائبه ورئيس وأعضاء مجلس أمناء المركز، وبحضور عدد من المشايخ والمثقفين والأهالي. ولم يكن ذلك ليتحقق لولا دعم ومتابعة أمير المنطقة، وتبرع إحدى الجهات الحكومية بالمبنى، وتفاعل رئاسة المركز مع رغبة أبناء المجتمع النجراني الذي يتميز بالتعدد في إثراء الحوار الوطني، وتجلت تلك الرغبة في الحضور المتميز للمثقفين والأكاديميين والأعيان لحفل افتتاح المركز، وتبرع أحد أبناء المنطقة بصيانة وتأثيث المقر الذي تم تخصيصه للمركز، ولم أستغرب اللفتة الكريمة من لدن أمير المنطقة الذي أعرب عن تقديره للمجتمع النجراني الذي كان حسب وصفه «مثالاً راقيًا وساميًا وعظيمًا للوحدة الوطنية جسّدها في مواقف راسخة وثابتة لا تهتز، في السلم والحرب، وعند الرخاء والشدة»، مؤكدا أن المركز سيبقى منارة وطنية لتحقيق الرؤية نحو مجتمع متحاور لوطن متلاحم، وصون ما يعيشه السعوديون من وئام.

 وأمام كل ذلك علينا التأكيد بأن بلادنا تتعرض لاستهداف من بعض الدول الإقليمية، وكثير من الجهات المشبوهة، التي استعرت صدور قادتها بالغل والحقد، بعد أن رأوا المملكة تتقدم من نجاح إلى آخر، وتنعم بالاستقرار والأمن والسكينة، رغم ما يحيط بالدول التي حولنا من فتن، وما تمر به من حروب، وما تتعرض له من كوارث، ولم يدر هؤلاء أن السبب في عدم تعرض بلادنا لتلك الابتلاءات يعود – بعد توفيق الله وفضله – إلى حرص القيادة السعودية على مصالح شعبها، وحسن سياستها، ورؤيتها الثاقبة التي استطاعت توحيد قلوب جميع أبناء البلاد وصهرها في بوتقة واحدة. ولا أخال أن إدارة المركز تغفل عن تلك الظروف، لكنها مجرد محاولة للتذكير، والتأكيد على أن عدونا واحد ومعلوم، وأن السبيل الأنجع والأنجح لمواجهته هو تقوية اللحمة الوطنية، وتعزيز الجبهة الداخلية، وحينها لن يستطيع مغامر أو متطاول النيل منا أو مما حققناه من نجاحات.