خلصت دراسة بحثية أميركية مستقلة، أُجريت عام 2008، إلى أن الرئيس الأميركي جورج بوش ورجال إدارته نشروا، خلال الأشهر التي سبقت غزو العراق، كميات هائلة من الأكاذيب، لإقناع الأميركيين وأعضاء الكونجرس وحلفائه من الدول الأوروبية وغيرها، بعدالة غزو العراق واحتلاله.

وكانت أبرز الأكاذيب التي رددها بوش وطاقمه، يتعلق بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل، تلك الكذبة التي دعمت بمعلومات استخباراتية إسرائيلية، وكلفت الأميركيين حياة 4000 من جنودهم -حسبما ذكرته الدراسة- إضافة إلى كذبة وجود علاقات بين صدام حسين وأسامة بن لادن.

وقد رصد مُعدّو البحث أكثر من 935 تصريحا كاذبا صدرت عن بوش ورجال إدارته، خلال الخطابات والبيانات الصحفية والمقابلات التلفزيونية، إضافة إلى خطاب الأمة الذي يلقيه بوش أسبوعيا عبر موجات الإذاعة، إذ لم يخل خطابه من كذبة ما!.

في الواقع، تكاد تكون هذه أكبر عملية كذب في التاريخ، إذ لم يسبقها سوى خدعة حصان طروادة، والتي يمكن وضعها تحت تصنيف الكذب والمخادعة هي أيضا. صحيح أنهما نفذتا بطرق كلاسيكية بحتة، لكنهما كانتا ناجحتين في تأدية ما خُلقتا من أجله، إلا أننا اليوم أمام صانع كذب جديد وخطير، وأكثر ذكاء وسرعة في الاختلاق والعشوائية ممن سبقه، قد يقلب موازين البشرية جمعاء في لحظة غفلة نظنها ثقة.

إذ يشهد العالم اليوم -وبعد عقد من أكاذيب بوش والإدارة الأميركية- تطورا كبيرا جدا فيما يخص الذكاء الاصطناعي، إذ باتت الفجوة تتسع أكثر بين الواقع والخيال من جهة، والحقيقي والمزيف من جهة أخرى، إذ ومع كل تقدم في هذا الجانب تزداد الأشياء غموضا، وهو تناقض واضح ومقلق جدا، إذا ما عرفنا أن المساعي التكنولوجية يفترض أن تقدم التوضيحات للأشياء، لكن الواقع يقول إننا ندخل مع كل كشف جديد إلى دهاليز وعوالم جديدة أخرى، تتطلب هي أيضا تفسيرات وتوضيحات مهمة جدا.

الأسبوع الماضي -مثلا- تناقلت الأخبار حول العالم أن باحثين في كلية «دارتموث» الأميركية كشفوا أن الذكاء الاصطناعي أحد المشاركين في تزييف الأخبار، كونه يعتمد تقنيات متقدمة تتعلق بتغيير الصوت والصورة، وبالتالي سيواجه العالم نمطا جديدا من الأخبار التي يصعب التأكد من صحتها، وجاءت الأخبار قبلها من مقاطعة «ويلز» البريطانية، حسبما نقلته صحيفة «الجارديان» البريطانية بقولها: «دافعت الشرطة الويلزية عن قرارها المثير للجدل باستخدام تقنية التعرف على الوجوه خلال نهائي دوري أبطال أوروبا في «كارديف» العام الماضي، والذي أدى إلى الاشتباه في كثير من الأبرياء، إذ كانت التقنية التي طبقتها الشرطة تهدف إلى توقيف عدد أكبر من الخارجين عن القانون، وتعمل التقنية بطريقة قراءة إلكترونية رقمية لمسح الوجوه بين الحشود، ومقارنتها إلكترونيا بصور محفوظة في قاعدة بيانات لأشخاص تم احتجازهم سابقا!

وذكرت الصحيفة البريطانية أن 170 ألف شخص قدموا إلى كارديف الصيف الماضي، لحضور نهائي دوري أبطال أوروبا، بين ريال مدريد الإسباني ويوفنتوس الإيطالي، وميزت التقنية 2470 شخصا باعتبارهم مشتبها بهم، لكن الشرطة اكتشفت لاحقا أن 92% من هؤلاء تم اختيارهم بالخطأ، وقالت شرطة جنوب ويلز «تقنية تمييز الوجوه ليست دقيقة بنسبة 100%».

هناك كثير جدا من الأخبار عن الاستخدامات الانتهازية للتكنولوجيا وتحويلها إلى أداة كذب بامتياز، وهذا قطعا يعني أن البشرية ستواجه تحديات كبيرة إذا سلّمت كامل أوراقها للروبوتات، واعتمدت في تقرير مستقبلها على الذكاء الاصطناعي.

فالأمور حتى الآن -على الرغم من البراعة في السيطرة على التقنية التي تخترق حواجز خصوصية الإنسان بسهولة، ولا تبدو آمنة بالقدر الكافي- إلا أنها قادرة للأسف على تحديد مصير البشر وفق بيانات كاذبة، يتسبب في إدخالها البشر أنفسهم، فهل يمكن أن نتوقع السيناريوهات المحتملة على افتراض توجهنا المتسارع لتسليم الروبوتات مقاليد كثير من الأمور في حياتنا، لنصنع في غفلة من الزمن أعظم «كذاب» في تاريخ البشرية.

شخصيا، أتمنى أن نصل إلى نقطة الثقة في التقنية وذكائها، حتى لا تتحول إلى «صانع كذب» حقيقي، وهو ما يشير إليه مستقبلها حاليا، في ظل عشوائية وانتهازية استخداماتها من شريحة كبيرة جدا من البشر في العالم.