‏ركزت معظم الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء خلال الأيام الماضية، عند تناولها إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، على الآثار المترتبة على ذلك القرار الذي كان منتظرا منذ فترة طويلة، وفي مقدمتها عودة نظام العقوبات المؤلم الصارم على طهران، كما تبارى معظم الكتَّاب والمحللين السياسيين في الحديث عن الآثار المتوقعة لتلك العقوبات، لا سيما أنها أثبتت جدواها خلال العقود الماضية. وليس في كل ذلك خلاف أو ضير بطبيعة الحال، لأنها كلها حقائق ثابتة، لكن الذي غفل عنه الكثيرون هو الدور الذي لعبته دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في ذلك القرار، ونجاح الدبلوماسية الخليجية في محاصرة النظام الإيراني، الذي ظنّ أن بإمكانه خداع العالم أجمع، عبر التظاهر بتنفيذ الاتفاق، والالتزام ببنوده، نصا وروحا، فيما كانت تخرقها صباح مساء، عبر تطوير البرنامج الصاروخي المثير للجدل، وإنفاقها عشرات المليارات من الدولارات -التي دخلت خزينتها عقب توقيع الاتفاق- على حركات إرهابية مثل القاعدة وداعش، ودعم الجماعات المتمردة على دولها، في العراق ولبنان واليمن.

النجاح الكبير للدبلوماسية الخليجية الذي أشرت إليه يتمثل في إقناع الولايات المتحدة بخطورة التحركات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، وسعيها لتشكيل مناطق نفوذ متصلة في سورية والعراق ولبنان، إضافة إلى محاولة إضعاف الدول الخليجية، عبر تكوين فرع جديد لحزب الله في اليمن، حتى يكون شوكة في خاصرة تلك الدول التي يمثل استقرارها وأمنها شرطا لاستقرار الاقتصاد العالمي، بسبب ما تحتويه أراضيها من ثروات نفطية يعول عليها العالم أجمع، واندلاع أي فوضى فيها كفيل بوضع العالم فوق فوهة بركان لا يدري أحد -إلا الله- ما يمكن أن يسفر عنه من آثار اقتصادية مدمرة. كما أن تدخلات طهران في شؤون الدول الأخرى لم تقتصر على الدول الخليجية أو العربية فقط، بل إنه لا تكاد دولة من دول العالم سلمت من شرورها، للدرجة التي باتت فيها إيران تتبوأ المرتبة الأولى في العالم من حيث الدول التي تواجه مقاطعة سياسية وعزلة دبلوماسية.

الرؤية الأميركية الجديدة تجلت في إدراك تلك الحقائق، واستيعاب أن الحفاظ على أمن الشرق الأوسط يفوق في قيمته الحقيقية أي مكاسب اقتصادية آنية يمكن أن تحصل عليها الولايات المتحدة من التعاون مع إيران، وهو الفخ الذي وقعت فيه عدة دول أوروبية سارعت إلى استثمار مبالغ طائلة في إيران عقب توقيع الاتفاق، وتواجه شركات تلك الدول مخاطر هائلة في كيفية الانسحاب من طهران، واسترداد الأموال التي أنفقتها هناك، بعد تأكيد الرئيس الأميركي بفرض عقوبات اقتصادية فادحة على أي شركة غربية تنتهك العقوبات الغربية، التي يدرك النظام المارق أن عودتها تعني وقف تصديره للنفط، وتجميد أرصدته في الدول الغربية، وإيقاف التعامل الاقتصادي معه بشكل يعيده إلى عهد القرون الوسطى، ويمهد الأجواء أمام انتفاضة شعبية لن تتوقف هذه المرة إلا بعد اقتلاع النظام المتطرف من جذوره.

النجاح الذي حققته الدبلوماسية الخليجية في خروج الولايات المتحدة من الاتفاق، وإعادة فرض العقوبات على إيران، تطلب جهدا كبيرا ومضنيا، استمر عدة سنوات، وتحديدا بمجرد مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، تضمّن كشف التجاوزات الإيرانية، وبيان زيف ادعاءات نظام الملالي، ومحاولاته المخادعة، ومساعيه غير المشروعة لإشعال المنطقة العربية، وتدخلاته السالبة في شؤون دولها. ورغم الضغوط التي مارستها روسيا وعدد من الدول الأوروبية على الرئيس الأميركي، ومحاولات إثنائه عن الانسحاب من الاتفاق، إلا أن الصوت العربي كان أعلى وأوضح، وكانت الحجج الخليجية التي سيقت لواشنطن أكثر إقناعا، وهو ما أدى أخيرا إلى إعادة شد الحبل على رقبة نظام الخميني، ومحاصرته من جميع الجوانب.

وربما يكون من الإنصاف القول إن ضيق الأفق السياسي، الذي ظل سمة ملازمة للنظام الإيراني، منذ مجيء الخمينيين إلى سدة الحكم سهَّل المهمة، فقد اعتمد هذا النظام على لغة العنتريات الجوفاء عديمة المعنى، وتمسك بسياسة التحدي، وإطلاق التصريحات الخنفشارية التي ما قتلت ذبابة، وربما توهّم أتباع الولي الفقيه أن باستطاعتهم مواجهة العالم كله، وهم بذلك قد صدقوا الكذبة التي أطلقوها بأنفسهم، فنظرة بسيطة إلى أوضاع بعض الدول العربية في المنطقة كافية لإصدار أكبر شهادات الإدانة بحق طهران، لا سيما في سورية واليمن، إضافة إلى الوضع السياسي الهش في العراق، والاحتقان الطائفي في لبنان، فأذناب إيران في تلك الدول مثل الحوثيين وميليشيات الحشد الشعبي وعصابة حزب الله، ما كان لهم أن يتمكنوا من ممارساتهم الإرهابية لولا مليارات الشعب الإيراني المغلوب على أمره، والتي أنفقها عليهم أتباع الولي الفقيه، بدلا من صرفها على شعبهم وإصلاح أوضاعه المتردية.

بقي التأكيد على أن النجاح الذي حققته الدبلوماسية الخليجية على وجه العموم، والسعودية بصفة خاصة، سوف ينعكس خيرا كثيرا، ليس على دول المنطقة فقط، بل سيشمل كافة الدول الإسلامية، ودول العالم المحبة للسلام، لأن قدرة النظام الإيراني على مواصلة التدخل في شؤون الآخرين سوف تقل كثيرا، بسبب تناقص قدرته على تمويل أذرعه الإرهابية، بعد فرض العقوبات وعودة الرقابة المشددة على حركة الأموال في طهران، إضافة إلى كلمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الواضحة، التي أكد فيها أنه سيتم تشديد العقوبات، وممارسة أقصى درجات الرقابة، قبل التطرق إلى حلول أخرى.