ربما كنت يومها في مساحة ومسافة الخامسة من العمر، عندما قال لي أبي، رحمه الله: ستهبط معي غداً إلى المدينة. خمس سنوات أولى من حياتي لم أغادر فيها قرية كنت أظنها وحدها كل القارات الخمس. نسيت..... إلا من غارة سنوية صبح عيد الأضحى مرافقا أمي لزيارة أمها على حافة الطور «الدرامي». نصل إليها حفاة على مسافة ساعات توازي زمن الرحلة من الرياض إلى باريس. لا زال وجه خالي -رحمه الله- أمامي حتى اللحظة مثل الشلال الهادر بالحب والفرح وهو يشاهد أخته بعد غياب. يكمل التراحيب ثم يهرب خلسة لثوان معدودة ثم يعود إلينا مضمخا بالدم وهو يرفع رأس الشاة: ابشروا بالشحم. يضع بيننا «صحفة» لم أشعر في حياتي بأكملها، ومن بعدها بتخمة الشبع من اللحم. كانت عزلة المسافة بين القرى تخلق لكل واحدة منها ثقافة مختلفة. تشعر بنشوة الإيمان حين يردد أهل تلك القرية دعاء التكبير بعد صلوات أيام التشريق بحداء قروي يأخذ بالألباب، على عكس قرية أهلي التي اشتهرت بين القرى بنبتة منهج لا يميل إلى جمالية الترتيل. والحق أن فرحتي طفلاً يهبط إلى الغالية «درامة» وأهلها فاتت دهشتي شاباً يصل إلى نيويورك.

ستهبط غداً معي إلى المدنية. وكم انتظرت المسافة ما بين أذان الفجر حتى الشروق. إحساس أن الجبل الشرقي ازداد ارتفاعا ذلك الصبح، فكأنني سأمد الذراعين كي أسحب الشمس من خلفه. وصلت سيارة «البيجو» من الشعف. بالكاد يجد أبي فوق كيس الدقيق على المرتبة الأخيرة ثم يحشرني في حضنه حانياً رقبتي وهي تلامس السقف. زمن طويل فلم تغادر أنفي رائحة جلود الفلاحين المكتظة التي قد لا تعرف ترف الاغتسال إلا برشة ماء باردة جداً بعيد الجنابة. تسمع في هذه الرحلة كل قصص تلك القرى حين يسردها راكب من كل قرية مر عليها هذا التاكسي ذلك الصباح. هل هو سيارة أجرة أم برلمان قروي متحرك صوب المدينة. أكاد يومها أنني مشيت ضد الخلق البيولوجي، فلم أرمش أبداً حتى لا تفوتني لقطة من معالم ذلك الطريق الأول في حياتي إلى المدينة. هنا ساحة الجامع في قلب خميس مشيط: أكثر صخبا ودهشة من يوم هبوطي إلى بيكاديلي لندن أو الإليزيه في باريس. وخوف من الضياع لم يفارق كفي إبهام أبي طيلة اليوم. بعدها طفت الأرض من طوكيو إلى فرانسيسكو ومن بلاد الغال إلى كوالالمبور، تلقيت مئات الدعوات سفرا، وبينها ما كان باذخاً جدا، لكن شيئا منها لا يساوي دعوة أبي، رحمه الله: ستهبط معي غداً إلى المدينة.