كما كان متوقعا، ألغى الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جانب واحد الاتفاق النووي الإيراني الذي وقّعته الدول الخمس دائمة العضوية إضافة إلى ألمانيا عام 2015 مع إيران، لإيقاف مسار برنامجها النووي. وينسب هذا الاتفاق إلى إدارة أوباما سيئة الصيت والفهم لعلاقتها بالشرق الأوسط، إذ جاء في خطاب الإلغاء «نقدا لهذه العلاقة وتصحيحا لها»، وأعاد بشكل واضح التأكيد على دور إيران في دعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار في هذه المنطقة.

وقد تضمن خطاب الإلغاء إعادة فرض العقوبات بأعلى درجة ممكنة، هذا يعني أن إيران ستواجه ظروفا اقتصادية بالغة الصعوبة، قد تؤثر على بقاء النظام حتى مع استمرار الدول الأوروبية الالتزام بهذا الاتفاق. وينتظر العالم سلوك السياسة الخارجية الإيرانية، وكيفية إدارتها هذا الملف الشائك الذي يهدد النظام نفسه.

سأستعرض في هذه المقال بشكل مكثف السياسية الخارجية الإيرانية بعد وصول الخميني للسلطة، والذي يُعد حدثا مفصليا في تاريخ المنطقة والعالم، وكيف استطاعت إيران الخمينية أن توائم بين صراخها الأيديولوجي ومصالحها القومية.

كانت إيران الشاه تشكل مصدّا جغرافيا- سياسيا لوصول الاتحاد السوفيتي إلى المياه الدافئة للخليج العربي الذي يشكل بضفتيه مستودعا وممرا للنفط، السلعة الأكثر أهمية للصناعة والحياة في العالم. السوفييت، الذين استولى حلفاؤهم الشيوعيون على السلطة في أفغانستان قبل نحو عام من وصول الخميني إلى طهران منتصرا، وتدخلوا بشكل مباشر في نهاية عام 1979، وطلبوا من حكومة أفغانستان الموالية لهم «إرسال رسالة تأييد للثورة الخمينية، تعبر عن الأمل بتعاون كلتا الحكومتين معا»، كما يروي الجنرال أوليغ كالوغين الذي عمل أكثر من ثلاثين سنة في المخابرات السوفييتية في مقال منشور في فورين بوليسي. كان كالوغين مسؤولا عن قسم مكافحة التجسس الخارجي، حين زار كابول عام 1978، وأسهم في رسم خطة التدخل السوفييتي في أفغانستان حسبما يذكر.

لكن الخميني الذي أطلق على الاتحاد السوفييتي «الشيطان الأصغر»، كان يتفاوض سرا أيضا مع عدوهم «الشيطان الأكبر»، الذي كانوا يعتقدون أنه سيكون عدوه الأول والأخير، فصمتوا عن دحرجة رؤوس الشيوعيين المشاركين في الثورة في شوارع طهران.

فقد كشفت وثائق مخابراتية أميركية رفع عنها السرية، ونشرتها كثير من وسائل الإعلام، تبادُل رسائل سرية ولقاءات بين الإدارة الأميركية والخميني، قبل وصوله إلى السلطة وبعدها، وأنه أشار برسالة موجهة إلى الرئيس الأميركي جون كيندي عام 1963 «إلى عدم إساءة تفسير تهجمه اللفظي، لأنه يؤيد مصالح أميركا في إيران».

وأشارت الوثائق إلى تعهد الخميني بعد وصوله إلى طهران منتصرا بـ«المحافظة على مصالح واشنطن»، ودعا الإدارة الأميركية إلى عدم الشعور بخسارتها حليفا إستراتيجيا! هذه سردية مكثفة لوقائع علاقات الخميني مع القطبين الذين شكلا النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، في لحظة التحول الكبير في إيران والمنطقة لاحقا.

ورغم أن التحول الذي حدث في طبيعة النظام السياسي الإيراني، قد يبدو للوهلة الأولى، لمراقبي الشؤون الإيرانية على أنه تحول في طبيعة المصلحة الوطنية الإيرانية، مع ما يعكسه هذا التحول من تأثيرات على صانع قرار السياسة الخارجية الإيرانية. كما رأى البرفيسور الأميركي- الإيراني روحي رمضاني «2004» خبير الشؤون الإيرانية الذي كان مستشارا لإدارة كارتر خلال أزمة الرهائن. ومع ذلك، يؤكد رمضاني أن هذا لم يحدث. فقد رأى أنه على امتداد التاريخ الإيراني، كان هناك توتر بين الأيديولوجيا والبراجماتية، لكن في النهاية تنتصر اعتبارات المصالح الوطنية دائما على الشواغل الأيديولوجية. وقد أثبت فرضيته من خلال الإشارة إلى فترات سابقة من تاريخ إيران في العصر الساساني والصفوي. وأكد أن هذا استمر في عهد الخميني وأتباعه، على الرغم من التحول الكبير في طبيعة النظام والأيديولوجيا التي يتبناها وتشكله، والمثال الذي قدمه هو إيران كونترا، التي حدثت تحت حكم الخميني، على الرغم من أنه كان يعدّ أميركا وإسرائيل أعداء لإيران.

وعلى الرغم من أنني أتفق مع استنتاجات رمضاني، إلا أنه لم يناقش -في هذا المقال على الأقل- ما الذي تغير إذًا؟! أو ما انعكاسات تحول إيران إلى دولة دينية على مصالحها الوطنية وانعكاسها على علاقاتها الدولية والإقليمية على وجه الخصوص؟

سأجادل بأن التغيير الذي حدث في النظام الإيراني بعد «الثورة الإسلامية» أضاف متغيرات نشطة جديدة إلى عناصر القوة الإيرانية، استثمرتها في مد نفوذها الإقليمي في المنطقة.

المتغير الأول: هو «الشيعية» كأيديولوجيا حاكمة بنص الدستور. والثاني: هو قوات الحرس الثوري كقوة عسكرية أيديولوجية. وسيكون لهذين المتغيرين تأثير فعّال وحاسم على سياسة إيران الخارجية، خاصة على علاقاتها الإقليمية.

فقد استثمرت إيران، وعلى مدار عقود، في بناء ميليشيات وأحزاب خاضعة لإداراتها في المنطقة العربية على أسس عقائدية مذهبية، لتكون ذراعها في إدارة كل بلد على حدة، وتكون هي العاصمة المركزية لكل الإقليم. وقدمت إيران المثال الأكثر وضوحا للتزامن بين خطابها الأيديولوجي الشيعي والتدخل العسكري المباشر عبر الحرس الثوري، خلال تدخلها في سورية. حيث استخدمت إيران، ووكلائها -كحزب الله وفصائل المرتزقة الأخرى- الرموز الشيعية على نطاق واسع في حربهم في سورية لإعطاء الصراع أبعادا طائفية. وبذلت إيران جهودا مكثفة ومتكاملة لإبقاء بشار الأسد في السلطة لأطول فترة ممكنة، مع تهيئة الظروف للاحتفاظ بقدرتها على استخدام الأراضي السورية والأصول التي بنتها هناك، لتعزيز مصالحها الإقليمية في حالة سقوط الأسد «ويل فولتون وآخرون: 2016».

هذه الإستراتيجية ساعدت على توسيع النفوذ الإيراني بشكل واضح، في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وحققت مكاسب إستراتيجية لإيران، لكنها في الوقت نفسه كشفت الغطاء «الخطابي» الذي تتستر به إيران، وأظهرها كدولة طائفية بشكل واضح، ليس لدى صناع السياسة والرأي، بل لدى عموم سكان المنطقة. وبحسب الباحث أفشون أوستفار «2016» فإن التدخل الإيراني في سورية «يقدم أكثر الأمثلة صراحة على سلوكها الطائفي»، الذي ورغم تخصصه في الشأن الإيراني، قدم في بحث نشره مركز كارينجي للشرق الأوسط، اثنين من المغالطات القاتلة. فقد عدّ أن سياسة تصدير الثورة الإيرانية هي سياسة غير رسمية، على الرغم من نص الدستور الإيراني عليها. والثاني استنتاجه أن التطرف الشيعي كان ردا على تصاعد التطرف السني في المنطقة! رغم أن الطائفية تشكل جزءا من هوية الدولة الإيرانية، إذ جعل المشرع الإيراني «الشيعية» محددا أيديولوجيا للسياسة الإيرانية كلها وليس فقط السياسة الخارجية، وجاء النص على شيعية الدولة عبر مادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد، كما نص الدستور حرفيا.

ويمكن القول خلاصة، إنه على الرغم من أن بنية النظام السياسي في إيران الخمينية أثرت على سلوكه الخارجي، وجعلته يقدم نفسه متشددا، لوجود محددات دستورية لا يمكن التغلب عليها إلا بضوضاء لفظية، وفرها خطاب الممانعة، فإنه ينتهج عمليا سلوك المهادنة عند حسابات موازين القوى وتأثيرها على مصالحه، مع بقاء الجناح اللفظي مستمرا في أداء مهامه. وبناء عليه، أعتقد أن إيران ستتكيف على المدى القصير مع قرار الرئيس الأميركي إلغاء الاتفاق، ومع بقاء الدول الأخرى فيه، فهي لن تخرج منه على الأرجح، لكن المدى الطويل سيكون مرتبطا بتحديد الإدارة الأميركية لهدفها النهائي من سياستها تجاه إيران، هل هي احتواء أم عزل أم إنهاء لنظام الملالي الذي وزع الشرور في المنطقة.