بهدوء وبتشجيع من الأسد الأب، ثم الأسد الابن، بدأت حركة التشيع في سورية تتحول إلى ظاهرة، مستندة إلى دعم سياسي جلي له أهدافه، على الرغم من أن التشيع كان قد سبق وجود الأب والابن بعقود، لكنه بقي تشيعا وسطيا مقبولاً، قبل أن يبدأ الملالي بعد ثورة الخميني عام 1979 بالانحراف به، وتوظيفه لخدمة أهداف توسعية.

وبقيت بلاد الشام إقليما سنياً متمسكاً بسنيته ومذاهبه الفقهية الحنفية والشافعية والحنبلية، حتى ما بعد منتصف القرن الرابع الهجري، حين وفد الحمدانيون وأسسوا دولتهم في مدينة حلب (شمال سورية) وهم شيعة، وصفوا بأنهم غير مغالين، وكان الصراع بينهم وبين الإخشيديين (حكام مصر) حول السيطرة على دمشق.

وفي نهاية القرن الرابع الهجري استطاع الفاطميون (العبيديون) احتلال أجزاء من بلاد الشام، وخاصة مناطق من الساحل السوري، وبقي الأمر مضطرباً والصراعات مستمرة بين الفاطميين والمرداسيين في حلب ودمشق، إلى أن جاء السلاجقة الأتراك في منتصف القرن الخامس الهجري وكان من آثارهم صلاح الدين الأيوبي الذي وحّد بلاد الشام ومصر.

ويبدو أن التشيع كان له أثر على بعض المناطق، وخاصة في مدينة حلب، إذ يذكر المؤرخون أنه حين أراد القائد التاريخي الناصر «صلاح الدين الأيوبي» الاستيلاء على حلب استنجد الوالي بأهلها، فاشترط عليه الشيعة (ويبدو أنهم كانوا يشكلون وجوداً كبيراً في حلب) إن أجابوه أن يعيد في الأذان «حي على خير العمل» في جميع المساجد، وينادي باسم «الأئمة الاثنا عشر» أمام الجنائز، ويكبر على الميت خمس تكبيرات، ويفوض أمر العقود والأنكحة لشيخ الشيعة «أبي المكارم حمزة بن زهرة»، فقبل الوالي ذلك مكرهاً!. كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يغزو فيها الفكر الشيعي أرض الشام، فقد استعادت الدولة الأيوبية – خصوصاً بعد صلاح الدين – ثم العثمانية حكم بلاد الشام، وأعادتها إلى وضعها الأصلي، لكن جيوباً للتشيع بقيت هنا وهناك تمت محاربتها ودفعها إلى الجبال.


أقليات باطنية

الولاء الديني السياسي للشيعة في بلاد الشام بعد انهيار الدولة الفاطمية حوّلهم إلى أقليات دينية باطنية منغلقة تغزوها الأفكار الوثنية للديانات الإحيائية التقليدية في منطقة الشرق الأوسط، وشكلت انشقاقات عن التشيع (الدروز والإسماعيلية، والعلويون «النصيريون»)، ولم يبق من الشيعة الإمامية الاثني عشرية سوى أقلية منبوذة اجتماعياً وسياسياً صغيرة جداً، تقطن بعض القرى الصغيرة، وكانت آخذة بالاضمحلال والذوبان في الجسم السني الكبير.

وفي «حي الأمين» و«الجورة» (يسمى الآن: حي جعفر الصادق)، وعلى مقربة من الجامع الأموي الكبير في دمشق، وداخل المدينة القديمة الأثرية، حيث الأزقة المغلقة والحواري الضيقة يقيم شيعة دمشق، في منطقة تفصل بين الأقليتين اليهودية والمسيحية، وهي المنطقة الوحيدة التي توجد فيها أقليات دينية في دمشق.

 وفي منطقة المهاجرين في جبل قاسيون في دمشق يقيم الشيعة في حي «زين العابدين» بمنطقة المهاجرين، ويطلق عليهم أهالي دمشق وصف «المتاولة»، أو «الأفارض»، وهي أوصاف تدل على نبذ المجتمع الدمشقي لهم.


طائفة صغيرة

حسب الإحصاءات الرسمية فإن نسبة الشيعة إلى عدد السكان في سورية كانت في عام 1953 تمثل 0.4 % من سكان سورية، وهذا يؤكد أن الطائفة الشيعية كانت صغيرة للغاية.

انشغل الشيخ الأمين بتصحيح «الانحرافات» التي أصابت الفكر الشيعي الاثني عشري في دمشق، وأسس لهذا الغرض «المدرسة العلوية» لإحياء التعاليم الدينية الشيعية «الصحيحة»، ومواجهة «الانحرافات» الأخلاقية التي يجلبها العصر، وهي أول مدرسة شيعية في سورية للتعليم الديني، ما تزال المدرسة قائمة إلى اليوم، وهي معروفة باسم (المدرسة المحسنية).

توفي الشيخ محسن الأمين عام 1952، ودفن في الحضرة الزينبية مخلفاً وراءه طائفة بدأت تدب فيها الحياة، متحفزة للمشاركة في المجال العام بعد أن كانت منبوذة ومغلقة على نفسها، يعلوها غبار مئات السنين من التاريخ المطوي؛ لهذا السبب يحظى السيد محسن الأمين لدى الشيعة السوريين باحترام كبير، فهم مدينون له بإحياء الطائفة، وتكريماً له يطلق على أحد الأحياء التاريخية التي يقطنها الشيعة اسم «حي الأمين».

في الستينيات من القرن الماضي شارك الشيعة في حكومة البعث في الفترة من فبراير 1966 – نوفمبر 1970 عبر حقيبة وزارية واحدة، وبعد استيلاء الضابط العلويين الكامل على السلطة، وهو أمر له دلالته الهامة، خصوصاً إذا عرفنا أن حزب البعث امتد إلى لبنان في ذلك الوقت، وأن بين كبار قياداته في لبنان شيعة.


علونة السلطة والحزب

«العلويون» هم فرع من غلاة الشيعة انشقوا عن الطائفة الإمامية الاثني عشرية، ينظر إليهم في النصوص الإمامية الاثني عشرية الفقهية باعتبارهم «كفاراً».

الانتماء إلى أقلية دينية من هذا النوع كان له عمق كبير في شخصية حافظ الأسد، وعلى الرغم من انتمائه اليساري (فهو من الفصيل اليساري لحزب البعث) فإنه «كان يشارك أبناء طائفته عواطفهم في السخط على الماضي، وكان عليه أن يعمل بجد لإقناع المتشككين بأنه قد خلّف عقد الأقلية وراء ظهره، وبأنه ملتزم جسداً وروحاً، قلباً وقالباً بالتيار القومي الرئيس العام.

لكن الأحداث أثبتت أنه كان غير ذلك، فقد كانت غريزته الطائفية أقوى من قوميته بما لا يقاس؛ إذ عمل الأسد ورفقائه في «اللجنة العسكرية» على علونة حزب البعث وعلونة السلطة، وقد بدأت العملية الطائفية في الجيش والبعث منذ انقلاب البعث في 8 مارس 1963، واشتدت مع تسلم الأسد وزارة الدفاع في عهد نور الدين الأتاسي (1966 – 1970)، وبلغت ذروتها بعد انقلاب الأسد، واستيلائه على السلطة، وكان لذلك أن يستثير الغريزة الطائفية السنية التي تتم عملية إزاحتها من الجيش والسلطة، ويفجر أحداث عنف شديدة شهدتها سورية بين عامي 1978 – 1982 وما يزال أثرها قائماً إلى اليوم.


وفود عمائم الشيعة

في مطلع السبعينيات لجأ إلى سورية عدد من رجال الدين الشيعة هرباً من بطش النظام العراقي (البعث اليميني) إلى دمشق (حيث النظام البعثي اليساري)!، وكان من بينهم الشيخ حسن مهدي الحسيني الشيرازي، الذي عانى في السجون العراقية إلى أن تمكن من الخروج إلى سورية بعد لأي.

أقام الشيرازي في قرية سنية بجوار مقام كان لا يزال غير معروف بشكل واسع في ذلك الوقت، هو مقام السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، الذي أصبح فيما بعد أشهر مقامات الشيعة، وربما أهمها بعد النجف وكربلاء، وأسس حسن مهدي الشيرازي عام 1976 حوزة علمية للتعليم الديني، عرفت بـ «الحوزة الزينبية»، وهي أول حوزة للتعليم الديني (العالي) للشيعة في سورية.

وتعد الحوزة الزينبية الآن أهم الحوزات العلمية في سورية، وأكثرها نشاطاً وتأثيراً، وطلابها من لبنان، وشيعة السعودية والخليج، والأردن، والعراق، وسورية، وباكستان، وإفريقيا، وأفغانستان.

وعبر هذه الحوزة، أُنشئت حوزات في السعودية وإفريقيا ولبنان، حيث استطاعت أن توجد تياراً من العلماء يقومون بأعمال التثقيف والتعليم (الديني الشيعي) في مختلف المدن السورية.


استقطاب

في مطلع السبعينيات كان الاستقطاب السياسي السني المسيحي في لبنان جلياً، في وقت رأى الشيعة والدروز أنهم محرومون من الكعكة السياسية، وكان الأسد الأب يتطلع إلى لبنان ويبحث عن نفوذ فيه، خصوصاً أن لبنان كان الخاصرة الرخوة لسورية أمام الإسرائيليين.

في هذه الأثناء انعقدت صدقة قوية بين الأسد ورئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان موسى الصدر (الإيراني اللبناني)، وكانت علاقة ذات أبعاد سياسية حاول الأسد من خلالها دعم شيعة لبنان للحصول على نصيب من الكعكة السياسية في بلدهم، وسعى بنفس الوقت للحصول على نفوذ بعدما أقام علاقة قوية مع المسيحيين وبعض الأطراف الفلسطينية، وهو ما مكنه في النهاية من الدخول إلى لبنان عام 1976 بموافقة أميركية وتبعاً إسرائيلية كما تؤكد الوثائق.

في 31 يناير 1973 أجرى الأسد تعديلا على الدستور، وصممه ليكون أساسا لحكم طويل، وحذفت منه مادة أن يكون رئيس الجمهورية مسلما، ما أثار الاحتجاج في سورية، وقاد إلى تراجع الأسد عن حذف المادة، لكنه واجه مشكلة أن العلويين لا يعدون مسلمين لا عند السنة ولا عند الشيعة، وهنا واجه الأسد مشكلة ولجأ إلى الصدر الذي أصدر له فتوى بأن العلويين مسلمون وأنهم طائفة من الشيعة.

في صيف 1976 عندما دخل جيش الأسد إلى لبنان أسدى إليه موسى الصدر خدمة أخرى عظيمة، إذ أبقى الطائفة الشيعية اللبنانية خارج ائتلاف كمال جنبلاط اليساري، الذي كان الأسد يحاول كبحه وإخضاعه آنذاك، وبات على الأسد أن يرد للصدر دينه.

لعب الصدر دور صلة الوصل بين المعارضة الإيرانية المتمثلة بمعسكر الخميني وبين الأسد، فمد لهم يد المساعدة، وعرض على الخميني النزول في ضيافة سورية في أكتوبر 1978 عندما أُخرج من العراق، ولكنه فضل أن يستقر في «نوفل لو شاتوه» قرب باريس.


وظيفة سياسية

 جاءت دعوة الأسد للخميني في وقت بدأ يواجه معارضة إسلامية سنية مسلحة.

فما إن انتصرت الثورة الإيرانية حتى أوفد وزير خارجيته السني عبدالحليم خدام في أغسطس 1979 مهنئاً، وكان قد سبقه وزير الإعلام العلوي أحمد إسكندر أحمد بهدية من الأسد؛ هي نسخة من القرآن الكريم مزخرفة بالذهب.

الواقع أن الأسد – على ما يبدو – لم يكن متحمساً كثيراً للخميني؛ إذ كان يرى فيه أصولياً، والأسد ما كان متديناً أبداً، بل كان علمانياً، وطائفيته طائفية سياسية لا تتعلق بأي قناعات دينية، لهذا السبب فبقدر ما كانت العلاقة مع الزعيم الشيعي الأكبر (الخميني) ذات وظائف سياسية كانت في المقابل لا تتضمن بعداً دينياً، بل إن الأسد حرص على ضبط العلاقة في هذا الإطار.

قام الأسد بمجازر وجرائم إبادة ضد شعبه في المدن السورية (وبشكل خاص: حلب وإدلب وحماة)، وفي سياق محاولة قمعه الإسلاميين قمعاً وحشياً للتخلص منهم دون رجعة، لقي الأسد تغطية أميركية؛ فقد كان دخل لبنان بصفقة أميركية إسرائيلية، وقد أسدى ملالي إيران خدمة للأسد بصمتهم المطبق عما فعله من مذابح ومجازر 1980 – 1982، وذلك على الرغم من أن إيران رفعت شعار تصدير الثورة ومناصرة الحركات الإسلامية التحررية من الأنظمة الظالمة و«الكافرة» مثل نظام البعث! ولا بد أن الأسد كان ممتناً ومديناً لهم بذلك بالتأكيد.


 


 ترصد دراسة "البعث الشيعي في سورية 1919 ـ 2007" الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات السورية، كيف تحول التشيع في سورية ليصبح ظاهرة وتياراً له نشاطاته العلنية مستفيداً من التسهيلات التي قدمها لها رأس النظام في سورية لتلاقي مصالح الطرفين. "الوطن" تسلط الضوء على هذه الدراسة عبر حلقات متسلسلة.


الحلقة الأولى: التشيع في سورية ظاهرة تتفشى بتشجيع من رأس النظام