مع نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، بدأ الملالي يستغلون أجواء الانفتاح التي أُتيحت لهم في سورية، وصاروا يفدون إلى دمشق، وينشطون في تبشيرهم بالتشيع.

ومع انفتاح حافظ الأسد في العلاقة مع حزب الله أصبح بإمكان الشيخ محمد حسين فضل الله، القدوم إلى ضاحية السيدة زينب، وإلقاء دروس أسبوعية في حوزاتها، وفضل الله (المفكر الديني الحركي لحزب الله) كان طامحاً إلى حيازة مرجعية دينية شيعية.

ومنذ ذلك التاريخ وبشكل منتظم كان فضل الله يلقي دروسه العامة والخاصة في الحوزة الزينبية والحيدرية، وهي دروس كانت في معظمها تستهدف ترسيخ مرجعيته الدينية خارج لبنان وخصوصاً في شيعة دول الخليج، وما لبث أن أسسَ له في ضاحية السيدة زينب مكتباً مخصصاً للفتوى والخُمس على عادة المراجع الشيعية التي لدى كل منها مكتبه الخاص.

وكان فضل الله – شأن المرجعيات الشيعية في إيران والعراق التي لفت انتباهها تيار التشيع في الطائفة العلوية – مهتماً بتعميق صلته بالتيار الشيعي العلوي، فكتب في سنة 1992 مقدمة لكتاب «العلويون والتشيع» يدافع فيها عن مظلومية الطائفة العلوية، وضرورة تصحيح التصور «المغلوط» الشائع عنها، والانتباه إلى أنها كانت ولا زالت شيعية إمامية!.


مهاجرون عراقيون

 


بعد انتفاضة الجنوب الشيعي في العراق عام 1991 قَدِم عدد كبير من المهاجرين العراقيين معظمهم من النشطاء الحركيين وقياداتهم، واستوطنوا حي الأمين والسيدة زينب، وأسهم هذا في بث النشاط الشيعي على نحو غير مسبوق، فقد خصص التلفزيون السوري الرسمي عام 1992 حلقة أسبوعية (يوم الجمعة) للواعظ الشيعي العراقي عبدالحميد المهاجر الذي كان ناشطاً من قبل في العمل التبشيري بشكل شبه علني، وكانت هذه هي المرة التي يظهر في التلفزيون السوري، ولم يكن السوريون السنة يخفون حنقهم من هذا الدرس، فقد شعروا أن الفضاء الديني السني انتهك بقوة عندما سُمح لشيخ شيعي بوعظ جموع الأكثرية السنية، وما إن أصبح المهاجر وجهاً معروفاً لدى السوريين حتى ذهب يطوف أرجاء سورية مبشراً بالتشييع.

بدأت حركة تشييع واضحة تنمو وتتجه إلى القرى والأرياف وإلى طلاب العلوم الدينية بشكل خاص، فالعروض بالدراسة في قُم أصبحت تنهال على كل من يقترب من المؤسسات الشيعية، بدءاً من المستشارية الإيرانية وصولاً إلى أصحاب المكتبات الشيعية في السيدة زينب يشاركون في هذه العروض الدراسية لكل سوري يهتم بالفكر الشيعي، ولكن قليلون أولئك الذين استجابوا لإغراءات هذه العروض، فقد كانت شبه محصورة في الأوساط المثقفة ثقافة دينية وأوساط طلبة العلوم الدينية.

 


تشيع العمال

بعد اتفاق الطائف بدأت العمالة السورية بالتدفق إلى لبنان، وجزء كبير منها كان يحمل الكفاءة المهنية بدرجات متدنية، ويعاني من بطالة مزمنة في بلده.. في الجنوب اللبناني كان بين هؤلاء الآلاف من الأكراد، وبينهم مئات من الأكراد «البدون» الذين حرموا الجنسية السورية في إحصاء الحسكة الاستثناء عام 1962.

أدى هذا الاحتكاك إلى تشيع عدد كبير من العمال السوريين خصوصاً من الأكراد البدون الذين كانوا يأملون بالجنسية اللبنانية عبر اعتناق التشيع ودعم حزب الله لهم، لكن أحلامهم التي لم تتحقق على الغالب كانت الشباك التي صِيدوا بها من أجل التحول الشيعي.

تشيعَ مئات العمال، وتأثر بالتشيع ربما أضعافهم، ونتيجة لهذه الحركة التبشيرية التي بدأت تدب في أرجاء سورية بدأ الشيعة السوريون الأصليون يقومون بنشاطات شيعية علنية ربما للمرة الأولى في المدرسة المحسنية في حي الأمين بدمشق مع حرص شديد على دعوة الشخصيات والرموز الدينية السنية من أهالي البلد لحضورها، ونشطت جمعياتهم بالحركة، فبدأت جمعية النجمة المحمدية بعقد مجلس السيدة زينب في الـ15 من رجب عام 1993، وأصبح ينعقد بشكل سنوي منذ ذلك التاريخ.

 


احتلال المقامات

بدأ الشيعة ينقبون عن مقامات مندثرة لآل البيت لإحيائها، وكان الملالي الإيرانيون قد اكتشفوا نهاية السبعينات، وعلى نحو مفاجئ هناك عدد من المقامات «المهمة» والمهملة مثل: «مقام السيدة زينب»، و«مقام السيدة رقية» في حي العمارة الجوانية حارة الأشراف، ومقام الصحابي «حجر بن عدي الكندي» في قرية عدرا في ريف دمشق التي تتبع للإشراف السني، فقرر ملاليهم احتلالها!.

وظاهرة المقامات لدى الشيعة ليست ظاهرة عادية، فالفكر الشيعي يعبد التاريخ وأحزانه ونظرته السوداوية المستمرة للعالم تجعله مهتماً بالمآسي والأموات أكثر من اهتمامه بالأحياء.

وعلى أي حال ما إن انتهى عقد الثمانينات حتى سطا الشيعة على الأوقاف السنية التي تضمنت «مقاماتهم» المكتشفة.

كان حافظ الأسد يراقب عبر أجهزته الأمنية هذه النشاطات عن قرب، وإذا كان الأسد لم يجد في هذه النشاطات ما يؤذي سلطته، فإنه وجد في الوقت نفسه أنه يمكنه الاستفادة منها لدعم هذه السلطة.

كان الأسد – في المقابل – يفكر بتأمين انتقال سلسل لخلافة ابنه «باسل» له، عبر دعم حكومة الملالي في إيران له ودعم «تيار عودة الفرع إلى أصله» الشيعي القوي في الطائفة العلوية، وانطلاقاً من ذلك أمر ببناء مسجد كبير في قريته في محافظة اللاذقية «القرداحة» الذي أطلق عليه اسم والدته ناعسة عبود (مسجد ناعسة)، وحينما أراد افتتاحه 1991 عين الشيخ العلوي فضل غزال (أحد أبرز شيوخ تيار التشيع العلوي) إماماً له.

 


طلائع الغزو الشيعي

مدت الحوزات الشبكة التبشيرية النشطة - التي تشكلت لتوها بأموال المرجعيات وغيرهاـ بالسند الفكري والكادر التبشيري المؤسسي، فوجود الحوزات على الأراضي السورية يتطلب أساتذة ومدرسين منتدبين من قبل المرجعيات، وإنه لأمر ذو دلالة أن تكون جميع إدارات الحوزات وكوادرها التدريسية والتعليمية – التي أسست في ذلك التاريخ وحتى اليوم – من جنسيات غير سورية معظمها عراقية وإيرانية وبعضها لبناني، وإن كان هذا يدل على شيء، فإنما يدل على هيمنة المرجعية الدينية الإيرانية والعراقية على الفكر الشيعي، وأن الأقلية الشيعية السورية الصغيرة جداً ليس لديها مرجعيات دينية ولا مدرسين أكفاء، لهذا السبب كانوا دائماً منفعلين بالخارج.

 


الاستيطان

 


تنشأ المقامات، ويتم بعثها أو اختلاقها، الأمر سيان، فهي تحتفظ بنفس التأثير وتلعب الدور نفسه، ويبدأ الزوار يتقاطرون من إيران والعراق ولبنان والخليج، وتروّج المرجعيات والمبشرين ومكاتب السياحة الدينية لزيارتها، وتصبح الصور والمقتنيات التذكارية حاجة للزوار المتكاثرين سرعان ما يكتشفها الأهالي، فينشأ مع الأيام – وبسرعة كبيرة تواكب تزايد التدفق – سوق في المباني والمحال المجاورة، وشيئاً فشيئاً يصبح بقاء المقام جزءاً من معاش الأهالي!.

يعاد بناء المقام على هيئة مكان مهيب أو يتم توسعته، ليزيد ذلك من اجتذاب الزوار المتبركين ومن كادره الخدمي، ويبدأ بالتحول إلى مركز تبشري، ويبدأ سعي المتدينين والمرجعيات الدينية للإقامة بجوار المقام، ويتحول الأمر إلى وجود شيعي اجتماعي واقعي مع مرور الأيام.

ومن الطبيعي أن تنتشر الفارسية (لغة الحجاج والزوار) على الألسنة وواجهات المحال التجارية المجاورة للمقام، وسرعان ما تبدأ فكرة الحسينيات والحوزات بجوار المقام المقدس تستحوذ على تفكير المراجع الدينية، الذين سيتنافسون على وجود مؤسساتهم بجواره تنافسا أساسه التنافس على الأتباع.

 


مراكز تبشير

عقد من الزمن كفيل بأن يجعل أي مكان من الأماكن التي يشيدون فيها مقاماً كي يتحول إلى مركز تبشيري واجتماعي شيعي، لتبدو منطقة المقام كما لو أنها قطعة أرض هاربة من بلاد فارس! أو أبنية من أجواء قصص ألف ليلة وليلة! فشكل الأبنية والقباب على الأضرحة وملحقاتها يبنى دوماً وفق النمط الفارسي حصراً، وبالتأكيد فإن هذا الأمر له دلالته الرمزية والنفسية للشيعة العرب وعلاقتهم الاعتقادية بإيران الجمهورية الإسلامية الممهدة لظهور الإمام المهدي.

انخرط طلاب العلوم الدينية من العراقيين الشيعة وملاليهم في الحوزات العلمية القائمة في السيدة زينب، وساهموا في تأسيس حوزات وحسينيات جديدة، وأموا وأداروا حسينياتها، ووفقاً لشهادة مختار البغدادي مدير حوزة المصطفى فإنه بعد استقرار جمع كبير من العراقيين في بلاد الشام، وبالذات في منطقة السيدة زينب ومن مختلف الكفاءات والمحافظات العراقية تبلورت جملة من التصورات في أذهان العلماء والمتصدين للقضية الدينية في ضرورة بناء المؤسسات الدينية التي تتبنى مسؤولية بناء شخصية الإنسان المؤمن بناءً تخصصياً.


قُم الصغرى في سورية

حتى عام 1995 لم يكن في سورية سوى حوزتين، الأولى «الحوزة الزينبية» أنشئت سنة 1976، والثانية «حوزة الإمام الخميني» أنشئت عام 1981، وحتى عام 1991 لم تكن أي من الحوزتين تابعة للوزارة.

وبدءاً من عام 1995 شهدت «السيدة زينب» تشييد وتأسيس عدد من الحوزات، لتبدو كما لو أنها تسير لتصبح مدينة «قم» سورية! ففي ما بين 1995 – 2000 تأسس ما يزيد عن 5 حوزات علمية، ولا يبدو واضحاً لم تأسست هذه الحوزات بين عامي 1995 – 1996 بل ورُخّص في العام نفسه لجمعيات ثقافية شيعية، وجمد تأسيس الحوزات بعد ذلك، ولم يستأنف حتى عام 2001! قد يكون السر في قرار اتخذ بمنع الترخيص الأمني (وليس القانوني) للحوزات بعد ذلك؟ ولكن إذا كان ذلك صحيحاً، فما الذي يجعل الأسد يتخذ قراراً بذلك؟.

بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية «اتفاق أوسلو» 1993 بأشهر، أي في ديسمبر 1994 توفي نجل الرئيس حافظ الأسد الأعز «باسل» مواليد 1962 الذي كان يعده لخلافته بحادث أليم، كان هذا يعني بالنسبة للأسد الأب ما يشبه انهيار مشروع الاحتفاظ المؤدب بالسلطة عبر التوريث، وأصبح الأسد بحاجة إلى دعم من الطائفة السنية يهدئ الشماتة المضمرة التي يعرفها جيداً في عيون ضحاياه السوريين، وكان أول ما فعله هو جعل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي السني الكردي إماماً في صلاة الجنازة، كانت إمامته دالة إلى حاجة الأسد الماسة للدعم السني، وذلك على الرغم من أن هذه الإمامة شهدت تدافعاً واعتراضاً من قبل إمام مسجد ناعسة الشيخ فضل غزال أمام مرأى السوريين الذين تابعوا باهتمام استثنائي هذا الحدث عبر البث المباشر على شاشة القناة الأولى للتلفزيون السوري الرسمي. حاجته للدعم السني كانت تعني في المقابل رغبته في عدم استغلال الفرصة لتأجيج طائفي يستهدف العلويين الذين انتشرت بينهم إشاعات تتهم السنة بالحادثة!.

 


 ترصد دراسة «البعث الشيعي في سورية 1919 ـ 2007» الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات السورية، كيف تحول التشيع في سورية ليصبح ظاهرة وتياراً له نشاطاته العلنية مستفيداً من التسهيلات التي قدمها لها رأس النظام في سورية لتلاقي مصالح الطرفين. «الوطن» تسلط الضوء على هذه الدراسة عبر حلقات متسلسلة.

الحلقة 4


مظاهر التبشير الشيعي في سورية


تنتشر الفارسية في المحيط القريب من المقامات.

ظهور مكثف للحوزات الشيعية حتى وصلت إلى 5 حوزات.


تتولى المكاتب والمرجعيات الترويج لزيارة هذه المقامات.


تبدو منطقة المقام مع مضي الزمن كأنها قطعة هاربة من بلاد فارس.

تنشأ بالقرب من المقامات تجارة المقتنيات وسوق من المباني والمحال تبنى على الطراز الفارسي.

إنشاء المقامات وبعثها أو اختلاقها وتحويلها لاحقا إلى مراكز تبشير.