كشف المسؤول بوزارة الخارجية الإيرانية، عباس عراقجي عن أسلوب الانتهازية السياسية الذي تتبعه بلاده، واتخاذها مصائر الدول ومستقبلها كأوراق ضغط تحاول اللعب بها في إطار حسابات السياسة المتغيرة، ثم ما تلبث أن ترميها - هكذا بكل بساطة - بعد أن تستنفذ أغراضها، غير عابئة بما تسببت فيه من مآس وكوارث إنسانية هائلة لشعوب تلك الدول ومستقبل أجيالها المقبلة، ومن ثم تبدأ من جديد البحث عن ضحية أخرى لسياساته الانتهازية التي تقوم على مبدأ الشحن الطائفي البغيض، والعزف على أوتار مذهبية لإحداث حالة تأزم تمهد لحالة احتقان، تؤدي في الآخر لإشعال فتنة طائفية تتيح للنظام الإيراني تحقيق أهدافه.

هذا التصور ليس تحليلا سياسيا بالمعنى المفهوم، بل هو استيعاب مبسط لتصريحات المسؤول الإيراني، الذي أشار إلى أن بلاده لن تطرح قضية «نفوذها» في سورية والعراق ولبنان للتفاوض مع المسؤولين الأوروبيين، ولكنها على استعداد لبحث التوصل إلى حل في اليمن، في إطار البحث الجاري عن التوصل إلى تسوية سياسية تنقذ الاتفاق النووي، الذي وجه له الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضربة قاضية وأعلن انسحاب بلاده منه، إلا أن دول القارة الأوروبية التي تبحث عن إنقاذ ماء وجهها أمام القرار الأميركي، والحفاظ في ذات الوقت على مصالحها التجارية مع طهران، لا زالت تلهث وراء إحداث مقاربة ترضي الإدارة الأميركية وتعيدها إلى الالتزام بالاتفاق، عن طريق ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على طهران، وإجبارها على قبول بعض الشروط التي وضعها ترمب لاستمرار التزامه بالاتفاق النووي. ومع عدم ترجيح حدوث هذه المقاربة، إلا أن عراقجي استبق المشاورات التي تسبق اجتماعات بلاده مع مسؤولي الدول الأوروبي وأطلق ذلك التصريح.

السؤال الذي يطرح نفسه ببساطة، هو لماذا ترفض إيران بحث مسألة «نفوذها» في سورية والعراق ولبنان، وتقبله في ما يتعلق باليمن؟ هل لأن تطورات الأحداث العسكرية الأخيرة تؤكد قرب تحقيق قوات الرئيس هادي للنصر الكامل، لاسيما في ظل الحصار المحكم الذي يتعرض له زعيم الانقلابيين عبد الملك الحوثي، في معقل التمرد بمحافظة صعدة، واقتراب القوات الموالية للشرعية من مسقط رأسه في جبال مران، إضافة إلى التقدم السريع والانهيارات المتوالية في صفوف الإرهابيين في جبهة الساحل الغربي، وقرب استعادة الشرعية لميناء الحديدة الذي يعتبر شريان الحياة للميليشيات الموالية لإيران؟ أم أن اليمن لم يكن في الأصل جزءا من إستراتيجية نظام الخميني البعيدة الأمد، وأن التدخل الذي قام به ذلك النظام المارق لم يكن سوى محاولة لتشتيت انتباه الدول الخليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وصرف أنظارها عما يجري في سورية والعراق ولبنان، عبر افتعال جبهة عسكرية على حدودها الجنوبية؟

هناك سؤال آخر؛ لماذا تسارع طهران إلى إنفاق عشرات المليارات من الدولارات في سورية والعراق ولبنان، وتوظف كل علاقاتها المتشعبة لخدمة أذرعها العسكرية في تلك الدول، مثل ميليشيات الحشد الشعبي وحزب الله، وتمتنع عن إرسال - ولو القليل - للحوثيين، مع العلم أن كل هذه الميليشيات ذات طابع طائفي متشابه؟ فلماذا تتشبث بالبقاء في الدول الثلاث وتعرض بمنتهى البساطة استعدادها لبحث التوصل إلى تسوية سياسية فيما يخص الأزمة اليمنية؟

أيا تكن الإجابة، وسواء أكانت هذه أم تلك، إلا أن الحقيقة التي تظل واضحة هي أن طهران ظلت تتعامل مع مجريات الأحداث في اليمن بكثير من الاستهتار والسلبية، ويتجلى ذلك في إحجامها منذ البداية عن تقديم أي من أشكال الدعم والعون لحلفائها الحوثيين، رغم أنها تعهدت لهم - لتحريضهم على القيام بانقلابهم المشؤوم على حكومة الرئيس هادي - بأنها سوف تقدم لهم دعما ماليا فوريا بأربعة مليارات دولار في شكل وديعة للبنك بالمركزي، إضافة إلى تكفلها بمشتقات نفطية تكفي حاجة اليمن لعامين، ومساعدات غذائية هائلة. وبمجرد وقوع الانقلاب، لم يكتف الخمينيون بمجرد التنصل من التزاماتهم، بل رفضوا حتى مقابلة وفد من الحوثيين زار طهران لهذا السبب، وهذه الحقيقة أكدها القيادي في الجماعة الانقلابية محمد عبد السلام وأعلنها صراحة.

وبغض النظر عن المسببات، إلا أن الحقيقة التي تظل واضحة تشير إلى أن الانقلابيين يعيشون آخر أيامهم، وأن اليمن السعيد في طريقه للتخلص من ذلك الداء المسمى بالحوثي، فالضربات العسكرية الساحقة التي وجهتها قوات الجيش الموالي للشرعية، مدعومة بكتائب المقاومة الشعبية، للمتمردين في كافة جبهات القتال، لاسيما صعدة وتعز والبيضاء وميدي وأخيرا معركة الساحل الغربي، أنهكت قواهم، وكتبت نهايتهم، التي لم يتبق سوى إعلانها رسميا، كما أن العمليات النوعية الأخيرة التي قامت بها مقاتلات التحالف العربي لاستعادة الشرعية، دمرت كافة مخازن الأسلحة التي كان يعول عليها الإرهابيون لمواصلة حربهم العبثية.

هذا الوضع دفع كتائب إيران العميلة إلى محاولة ممارسة ذات الخدعة التي اعتادت عليها في السابق، بطلب هدنة عسكرية تمهد للحوار، وهي الدعوة التي تعاملت معها قيادة التحالف العربي بمنتهى الحزم، ورفضتها بصورة قاطعة، إدراكا لأنها ليست سوى محاولة لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الصفوف، والالتفاف على التقدم الهائل الذي حققته قوات الشرعية خلال الفترة الأخيرة، بل إن قوات التحالف لم تشغل نفسها بالدخول في أي تفاصيل حول دعوة الحوثيين، وواصلت توجيه الصفعة تلو الأخرى لقوات التمرد، ووضعتها في زاوية ضيقة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام ثم الدخول في حوار سياسي بمعطيات واضحة، أو مواجهة الموت والنهاية المحتومة.