العدمية صفة أُطلقت على كتابات أحد مفكرينا، من باب أنه ينطلق من نقد الواقع الحالي وتشريحه بقسوة، متطلعا إلى مستقبل أكثر إشراقا، والدكتور عايض بن صافي، كان يتساءل دائما: هل حاضرنا غياب أم إسقاط أم كينونة؟

وإذا سحبنا هذا التساؤل إلى العمل الثقافي، منذ أن أصبح للثقافة كيان، وإن كان بالمناصفة مع الإعلام في وزارة الثقافة والإعلام قبل 15 عاما، لنطرحه على النحو التالي:

هل أداؤنا الثقافي غائب عن الفعل الثقافي الحقيقي؟ أم أنه مجرد إسقاطات من أشخاص، أم اجتهادات وتجارب منقولة بشكل شخصي من هنا وهناك؟ أم أنه قام برسم تكوينه الخاص به على خارطة الثقافة المحلية والإقليمية والدولية تنوعا وثراء واستقطابا وتأثيرا؟

الإجابات المفتوحة لأسئلة محددة أفضل من الإجابات المغلقة لسؤال مفتوح، ولذلك سأضع بين يدي الإجابات المفتوحة للعموم عرضا بانوراميا للأداء الثقافي الذي يختلف بطبيعة الحال عن الثقافة بما هي مكون معرفي حضاري وفكري محلي وعربي وإسلامي وعالمي مشترك، ويختلف عن المنتج الثقافي العام الذي ينتجه منتمون إلى السعودية جغرافيا أو وجدانيا أو فكريا.

عندما صدر الأمر بإنشاء وزارة الثقافة والإعلام قبل خمسة عشر عاما سارعت الجهات إلى سلخ القطاعات المتعلقة بالثقافة وضمها إلى الوزارة الوليدة، أو التخلص من القطاعات التي تشكل عبئا عليها ورمتها على الوزارة، فنقلت الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة من رعاية الشباب، والمكتبات المدرسية من وزارة التعليم، والملكية الفكرية حائرة بين عدة جهات، والمجلة العربية من وزارة التعليم العالي، واحتفظت بعض القطاعات بنشاطات ثقافية بها كمعارض الكتب الداخلية لفترة من الزمن، فيما استمرت معارض الكتب الخارجية، ولنلق نظرة على بعض هذه القطاعات بعد عقد ونصف من العمل الثقافي وإدارته.

مر على بواكير تأسيس الأندية الأدبية 44 عاما، وكان لها دور مهم وفاعل، وتحولت في الفترات الأخيرة إلى نشاط نمطي تقليدي في النشاط المنبري، بحيث أصبحت بعض المحاضرات لا يتعدى الحضور فيها أصابع اليد الواحدة أو الاثنتين، وأصبح يعتمد في بعضه على المجاملات حتى إن أحد مسؤولي وكالة الشؤون الثقافية كان يفتخر علنا بأنه ألقى محاضرات في كل الأندية باستثناء ناد أو ناديين، والتحجج بأن الثقافة نخبوية وليست جماهيرية، وأن الناس انصرفوا عنها ليس على إطلاقه، بدليل أننا نجد محاضرات معينة تمتلئ فيها قاعات المحاضرات.

أما طباعة الكتب، فأصبحت مجالا لتكدس المستودعات، وبعض الكتب تُهدى إلى الزوار ثم تترك في أقرب زاوية مهملة، ناهيك عن كذبة النشر المشترك التي تقوم فيها دور نشر لبنانية بأخذ حقوق تصميم وطباعة ونشر الكتب وتوزيعها في العالم العربي، وهي في الحقيقة لا توفر إلا نسخا رمزية في معرض الرياض وجدة فقط، عدا التلاعب في عدد النسخ. ولأن أسوأ الأمور التعميم، فإن من الإنصاف الحديث عن جهود جيدة وواضحة في أندية تخبو وتلمع، ومطبوعات تشكل إضافة وسط الركام.

وانتخابات الأندية قصة بذاتها من خلال لائحة للأندية الأدبية تذكرنا بوزراء غوار الطوشة، وحتى لا تكون الأندية الأدبية هي الجدار القصير للاتهامات، فإن إدارة العمل الثقافي المضطرب والمتغير دائما، والخروج بوظيفة الأندية من فكرتها الأساسية إلى مكاتب فرعية تابعة لإدارة تابعة للوكالة المنبثقة من الوزارة، لهما دور في هذا التردي، إضافة إلى تداخل جهات أخرى خارج الوزارة تؤثر في أداء الأندية.

أما جمعيات الثقافة، فكانت تمثل الثقافة الحيوية بالمفهوم الحقيقي لها بعناصرها المختلفة، وهي: المسرح والفن التشكيلي والموسيقى والفنون الشعبية، وكانت تقوم بدور حيوي وفاعل، ومع تأثير الصحوة في الثمانينات اختفت الموسيقى، ثم مع ضعف الإمكانات حين مرت الطفرة الثانية بعيدا عن الجمعيات، كان شباب المسرح في الجمعيات يقومون بكل شيء بجهد ذاتي وحماس منقطع النظير، ويشاركون في المهرجانات الدولية، ولم تستمر هذه الجهود في مأسسة المسرح، سواء في معهد عال أو برامج تدريب حقيقية لهؤلاء الشباب، وليست برامج تدريب على مستوى البرمجة العصبية، أو الانتقال بالمسرح إلى صناعة حقيقية.

أما الفنون الشعبية، فأصبحت الجمعية سمسارا بين الفرق الشعبية الخاصة واحتفالات المحافظات والأمانات في اليوم الوطني والأعياد والمناسبات الخاصة. أما الفن التشكيلي فانحسر نشاطه كثيرا، سوى جماعات تطوعية وأتيليهات خاصة تتوهج فترة وتختفي، كجماعة الدوادمي التي تميزت في النحت، أو تتبناها جهات أخرى كالأمانات، وكان الدور البارز لفناني عسير في الجداريات وملهمتي والمفتاحة، والسينما كانت خارج إطار الجمعية من خلال مبادرات الشباب الشخصية في الأفلام القصيرة التي تتم بجهد فردي أو جماعي ذاتي، تتوج بمشاركات في المهرجانات الدولية، ولكنها تظل مجهودات تحتاج إلى ماكينة ضخمة تنتقل بها إلى صناعة حقيقية، ودع عنك ادعاءات البعض بأن الجمعية أو الأندية كانت رائدة في السينما، فأن نأتي بفيلم ونختفي كمجموعة خلف أحد الأبواب لنشاهد العرض، يُعدّ عملا أتعس مما كان يقوم به الأهالي في الطائف ومكة وجدة، حين يستأجرون فيلما وماكينة 16 ملم، ويعرضون فيلما على الملأ للمدعوّين في حفلات الزفاف في إحدى المدارس التي كانت إدارات التعليم تقدمها مجانا في نهاية الأسبوع للأهالي، لإقامة زواجاتهم في ساحتها وأسطحها، بموافقة من وزير المعارف آنذاك حسن آل الشيخ.

وقصة المكتبات العامة كوميديا سوداء، كانت وزارة المعارف تجعلها تكيّة للموظفين المزعجين الذين تريد أن تتخلص منهم، أو الذين تريد أن تبرهم بمرحلة نوم ما قبل التقاعد، وعندما أنشئت وزارة الثقافة حولت إليها أكثر من 80 مكتبة عامة في جميع مدن المملكة، بكوادر متهالكة ودون ميزانيات سوى الرواتب والترميم، وكانت النتيجة من مسح ميداني أجريناه العام الماضي على سجل الروّاد والزيارات، أن معظم المكتبات لا يرتادها أكثر من 10 أشخاص في الشهر، فضلا عن الموقع والتجهيزات والكوادر ومحتويات المكتبة، وهي الأهم.

أما وكالة الوزارة للعلاقات الثقافية الدولية، فلا رؤية ولا إستراتيجية ولا برامج، وإنما يقتصر دورها على استخراج التأشيرات واستقبال الضيوف الخارجيين، أو بعض المناسبات الخارجية التي تُعَدّ على عَجَل، وبشكل هزيل.

معارض الكتب في الرياض وجدة، رغم أهميتها العربية من ناحية عدد الرواد والقوة الشرائية، فالفعاليات المصاحبة وورش العمل والنشاط المتعلق بصناعة الكتاب أضعف كثيرا من أن يُذكر، ولا مقارنة مع معرض فرانكفورت أو حتى أبو ظبي الذي تميز بأنه معرض لبيع الحقوق وليس دكاكين لبيع الكتب.

ومشاركتنا في معارض الكتب الدولية، خاصة إذا كانت السعودية ضيف الشرف، أجمل ما يميزها المساحة الكبيرة للجناح، والديكورات الفخمة المكلفة، والقدوع ودلال القهوة وفناجينها المذهبة، أما الثقافة والكتاب فآخر همّها.

هذا العرض البانورامي ليس محاكمة أو إلقاء اللوم على جهة أو أخرى، وإنما هو لمعرفة كيف آلت إليه الأمور حين لا تكون لدينا إستراتيجية ثقافية حقيقية وليست صورية، وليست هناك برامج جدية لتحقيق الإستراتيجية لا مجرد نشاط فلاشات وبشوت للمسؤولين في يوم الافتتاح فقط، وأن يكون هناك قياس أداء مستمر لكل أجزاء الفعل الثقافي، ولذلك يقف الوزير عاجزا، رغم حماسه ورؤيته ورغبته، عن أن يحدث فرقا، ويُواجَه بقلة الإمكانات المالية وضعف الكوادر البشرية، وتداخل الصلاحيات وتأثير الجهات الأخرى.

واليوم، وبعد وقت طويل من الانتظار، أصبحت للثقافة مظلة ووزارة، وجاءت في ظل رؤية وبرامج للتحول وتحقيق الرؤية، ونتطلع من الوزارة إلى أن تعمل وفق سياسة حرق المراحل، فالوقت متأخر والعطب كبير، وأسلوب الترميم والترقيع لن يحقق شيئا، وإنما يزيد العبء أعباء، ولا نحتاج فقط إلى التفكير خارج الصندوق، وإنما التخلص من الصندوق الصدئ، وصنع قاطرة جديدة تستطيع أن تركض ضمن منظومة رؤية 2030.