ارتبطت الثقافة مؤسسيا لعقود تحت مظلة عُليا تحتويها كأحد النشاطات أو المسؤوليات التي تحتاج إلى أن تنضوي تحت هيكل رسمي أكبر منها، ليرعاها ويشرف على فعالياتها المتاحة لتنظيمها وضبطها.

وعلى الرغم من اختلاف توجهات القطاعات التي أُلحقت بها، سواء من رعاية الشباب أو وزارة الإعلام، إلى جانب تضخُّم مسؤولياتهما وتباين خططهما الإستراتيجية المعنية بما يمثلونه من نشاطات، بل وبعيدة عما يعنيه المفهوم الثقافي الشامل، فإن ذلك أدى إلى اندثار المفهوم الثقافي بمعناه الواسع واقتصاره على فعاليات ثقافية محدودة، تمثلت في الأندية الأدبية ومعارض الكتاب وبعض المنتديات الثقافية المحدودة والفعاليات البسيطة.

وقد ترتب على ذلك، قصور كبير في النشاطات الثقافية وما يتعلق بها من فعاليات واهتمامات بمضمون ثري بمحتواه ومتنوع في بنيته ومشاربه المختلفة، وكان ذلك نتيجة غياب المفهوم الصحيح للثقافة في الساحة الوطنية، بعد أن تم تحجيمه في إطار رسمي محدود، اختزل المفهوم الثقافي في فعاليات محدودة جدا، تفتقد إلى التنظيم والتطوير والجودة التي يعوزها احتواء إداري وتنظيمي.

وتعدّ الثقافة مرآة المجتمع الحقيقية، وصورته الرمزية التي تعكس طبيعة المكون الثقافي الذي يتشكل منه المجتمع بمختلف أفراده ومكوناته، وبما يختزنه من أفكار ورؤى وعادات وتقاليد وفنون وتراث متنوع يميزه عن غيره من المجتمعات، وخلال ما تسطره أقلام الأدباء والكتاب، على اختلاف توجهاتهم واهتماماتهم وتنوع المجالات التي تحتوي فكرهم. ومن الآثار والمقتنيات المختلفة، عرفنا كثيرا عن المجتمعات السابقة، وأدركنا ماهية حياتهم وواقعهم الاجتماعي والسياسي والديني، بل والاقتصادي والعسكري، والذي تبلور لنا من ذلك الموروث الثقافي المتنوع، سواء في سجلات مكتوبة شعرا أو أدبا أو قصة أو تاريخا شاهدا بآثاره على أحداث مضت، بل ويشمل ذلك ما نتوارثه من عادات وتقاليد تتعلق بالمأكل والملبس واللغة واللهجة والدين والمعتقدات، وغير ذلك من السمات التي تتشكل منها الهوية الوطنية للشعوب، وتُرسم خلالها اللوحة الوطنية المميزة التي تجمع بين تاريخ موروث، وحاضر نعيشه، ليرثها الجيل القادم ويضيف إليها بصمته الثقافية، وهكذا تُبنى وتتكون ثقافات الشعوب جميعها، من تراكم ثقافي يرثه جيل بعد جيل.

ولذلك، فإن هوية الشعوب المجتمعية هي بمثابة سجل تاريخي لموروثها الثقافي بجميع مكوناته، كما إنها شاهد على ما يعكسه واقع المجتمع المعاصر من عوامل ومؤثرات إيجابية، وداعمة لازدهار ثقافي يضيف إلى الموروث منه، أو تحديات تعوق التقدم فيه وتحد من إمكان التجديد والإضافة إلى ذلك المخزون الثمين.

وإن ابتهاجنا بإنشاء وزارة للثقافة، يرتبط بأهمية وجود سلطة إدارية عليا، معنية بجميع مضمونها وفعالياتها، ومسؤولة عن إحيائها والنهوض بها بعد مرقد لزمن طويل عاشت فيه كالابن الضال، حائرة في هويتها، مبهمة في تبعيتها، مشتتة في عطائها، تبحث عن مظلة تحويها لتكون راعية لها وحدها، ولتكون هي محورها وقلب توجهاتها ومركز خططها الإستراتيجية والتنظيمية المستهدفة.

فخلال وجود مظلة عليا مؤسسية معنية بالثقافة، ستصحو المعرفة وتنطلق الفنون ويبدع الفكر ويرتقي المجتمع بأسره، بإحياء ثقافاته المدفونة وتطوير إبداعاته المكنونة وتأهيل قدراته الموجودة وإمكاناته الثرية، وبها يمكن تهيئة المجالات والميادين لاحتواء وتنشيط الفرص الضائعة لموروث موجود بين جنباتنا، ولتراث مهدر يدون تاريخا غنيا لثقافات متعددة، يُثري بها الوطن بمناطقه المختلفة، سواء في طبيعتها المتباينة أو في مكونها البشري المميز، والذي جعل سجلّه الثقافي لوحةً فنية لفسيفساء تتجمل بألوان حبيباتها، وتختلف بأحجام حجارها، وتتنوع بعطائها الذي يعكس انتمائها المكاني تحت مظلة الوطن الذي يجمعها كبوتقة تنصهر فيها مختلف الثقافات، لتشكل في مجموعة الهوية الوطنية لشعبه ومجتمعه بكل موروثه الثقافي.

ومما لا شك فيه، أن إنشاء وزارة للثقافة هو من ثمار الطرح المنتظر لجميع ما تضمنته الرؤية 2030 من إستراتيجيات وطنية، وما لحقها من برامج ومبادرات مختلفة تصب في مصلحة التنمية الشاملة لجميع مقدرات الوطن، وبما يستهدف تحقيق الجودة في الحياة والرفاه المطلوب للوطن والمواطنين، والذي يقتضي أن تعمل جميع قطاعات الدولة كمنظومة متكاملة، يساند بعضها بعضا بجهود مدروسة وخطط متوائمة لتحقيق إنجاز شامل مشترك ينعم به الجميع، ويحصد ثماره الوطن بجميع مناطقه وسكانه.

وخلال التنظيم الملائم والخطط الشاملة المدروسة والجدية في الأداء، يمكن للوزارة تحقيق نقلة نوعية في العطاء الثقافي الوطني، وذلك بعد هيكلة مضمونه وتحديده ووضع الأطر القانونية والتشريعية لتنظيمه واستثماره، وتوجيهه نحو مستهدفات الرؤية وتطلعاتها في تحقيق جودة الحياة لكل مقدرات الوطن وإمكاناته، والذي يقتضي بدوره مشاركة نخبة من جميع المناطق من المعنيين بالشأن الثقافي بجميع تبعاته ومفرزاته، ليكونوا ضمن مجالس مناطقية ووطنية مشتركة، تسعى إلى تحريك الركود الثقافي الموجود، وتحديث موروثنا التاريخي بجميع مكوناته وتطلعاته المستقبلية، باستشراف حاجات مستحدثة ومتطلبات مبتكرة، تتواءم مع التطور والحداثة التي تعيشها المملكة الجديدة، بحليتها الوطنية المشرقة وعطائها السخي وكنفها الراعي لكل من يحتمي بها، ويستظل تحت سمائها وأرضها، وكما يحوي الوطن مواطنيه بالرعاية والحماية والشرف، كتاج يعتز به كل مواطن ويسعد ويتشرف بالانضواء تحت لوائه، فإن الوطن يزدان كذلك ويزدهر بمواطنيه، فهم اللؤلؤ والمرجان اللذان يتشكلان منه تاج الوطن.