بدأ شيعة إيران وحليفهم بشار الأسد رحلة مضنية في سباق لاهث مع الزمن في ظل التغيرات التي شهدتها المنطقة، وأبرزها مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري واتهام سورية وحزب الله بقتله.

وفي حين أبرمت طهران صفقتها السرية وغير المباشرة مع واشنطن – عبر رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية آية الله محمد باقر الحكيم – للتخلص من «عدوها» النظام العراقي، كانت دمشق تحاول بقوة منع حدوث احتلال سهل للعراق.

 تحمس البعثيون الأشقاء في دمشق، وكاد التناقض في قضية احتلال العراق بين طهران ودمشق يودي بتراث من المصالح والعلاقات السياسية المتبادلة منذ ثورة الخميني عام 1979، فدمشق باتت تخشى على نفسها من التغيرات في المعادلات السياسية الإقليمية في مرحلة ما بعد الاحتلال، كما أنها لم تستبعد ألا يتوقف الاحتلال بعد إزالة نظام صدام بالقوة عند الحدود العراقية، فما الذي يمنع الأميركيين من فعل ذلك مع النظام في سورية؟!.

 


 ترصد دراسة «البعث الشيعي في سورية 1919 ـ 2007» الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات السورية، كيف تحول التشيع في سورية ليصبح ظاهرة وتياراً له نشاطاته العلنية مستفيداً من التسهيلات التي قدمها لها رأس النظام في سورية لتلاقي مصالح الطرفين. «الوطن» تسلط الضوء على هذه الدراسة عبر حلقات متسلسلة.

الحلقة 6

 


مقتل الحريري


انقلبت المعادلة التي كانت في عهد الأسد الأب، وأصبح النظام السوري الطرف الأضعف في العلاقة، خصوصاً بعد خروج سورية من لبنان تحت الضغط الدولي، وتجنباً للقرارات التي أصبحت تصدر كمتوالية هندسية من مجلس الأمن ضد النظام السوري لتجبره على تنفيذ القرار 1559 القاضي بجلاء القوات الأجنبية عن لبنان، ثم تجبره على خضوع أعلى قمته للتحقيق الدولي.

أصبح النظام السوري مهدداً بوجوده من أساسه، لقد قصت مخالبه في لبنان، وصار محتاجاً لحزب الله أكثر من حاجة حزب الله له، إضافة إلى أنه في واقع الحال لا يستطيع الدفاع عن نفسه أمام أي هجوم عسكري إسرائيلي أو أميركي محتمل؛ فقدراته العسكرية الرادعة ضعيفة للغاية.

إن حرص النظام على العلاقات مع طهران أصبح قائماً على حس بدائي بالمصالح، ولم يستطع بشار الأسد وجماعته مقاومة الهرولة باتجاه إيران ومنحها كل ما يغريها من المصالح الاقتصادية والسياسية داخل البلاد، باختصار: فتح البلاد لها لتحقق مصالحها على أعلى درجة وأوسع نطاق، وكان بإمكان الأسد أن يقف بصلابة أكثر اعتماداً على الأوراق التي ما تزال بحوزته في المنطقة؛ لكن النظام الذي لا يحسن الإدارة ويفكر بعقل أمني وبهاجس الخوف لم يكن باستطاعته سوى المضي وراء هذا الخيار البائس.

بالنسبة لإيران كان الفراغ السياسي الذي خلفته الحرب الأميركية على العراق وأزمة سورية المتزايدة في لبنان وعزلتها الدولية مطمعاً لملء الفراغ بمد نفوذها وبسط سلطتها على أكثر الأماكن حساسية وسخونة في العالم (الشرق الأوسط المجاور لإسرائيل والمحاذي الشمالي لينبوع النفط الخليجي العالمي)، فقد أصبحت سورية – وفقاً لبعض التقارير الغربية، وهي محقة – «تجد نفسها محشورة بين مطرقة الضغوط الدولية وسندان الإنقاذ الإيراني».

لم يتلكأ الساسة الإيرانيون الخبثاء في استثمار الوضع الجديد بمد نفوذهم السياسي إلى العمق الاجتماعي السوري، بموازاة مد اقتصادي يستحوذ على صفقات القطاع الحكومي، وعلى الرغم من أن التعاون والتبادل الاقتصادي تصاعد بوتيرة غير مسبوقة منذ تولي بشار الأسد مقاليد الحكم في البلاد، إلا أن الوضع الجديد شرع أبواب التبادل الاقتصادي إلى أقصاه لصالح الكفة الإيرانية، وصار الإيرانيون يتحدثون عن سورية بوصفها «بلد هام جدا للاستثمار؛ نظراً لموقعها الجغرافي»!.

 


حـزب الله


بدءاً من عام 1997 سُمح لحزب الله – ربما بوساطة من «بشار الأسد» (المسحور بشخصية نصر الله) لدى أبيه – أن يجوب المدن السورية لعرض إنجازاته على معارض في المكتبة الوطنية العامة (مكتبة الأسد)، وفي الجامعات السورية، عبر عرض أشرطة فيديو مثيرة لعملياته العسكرية ضد الإسرائيليين، ومجسمات تمثل أهم العمليات وكيفية تنفيذها، وبعض القطع الصغيرة والعتاد المستولى عليه من الإسرائيليين، ويوزع بكثافة البروشورات وربما ينسخ أشرطة الفيديو ويوزعها على زواره.

وخمينيو لبنان، يرون أنفسهم سفراء «الثورة الإسلامية» الإيرانية، والواقع أن «سفراء الثورة الإسلامية على مثال حرس الثورة الإسلامية، من العسير تمييز مهماتهم الديبلوماسية والتمثيلية من مهماتهم»الثقافية«على ما كان يقول رئيس مجلس الشورى علي أكبر هاشمي رفسنجاني! وهكذا ما إن توفي الأسد في 10 يونيو 2000 حتى بدأ الخمينيون ممارسة مهمتهم الثقافية (التبشيرية)، بعد أن تحقق تحريرهم لجنوب لبنان فيما عُدّ شعبيا انتصارا تاريخياً.

بمناسبة»المولد النبوي الشريف«والمصادف لمولد الإمام»جعفر بن محمد«وبمناسبة»أسبوع الوحدة الإسلامية«الإيراني شارك حزب الله في 30 مايو 2002 في مدينة حلب لأول مرة في نشاطات دينية داخل الأراضي السورية، ممثلاً في أعلى قيادة له بعد الأمين العام»الشيخ نعيم قاسم«نائب الأمين العام لحزب الله، في احتفال كبير، وليس خافياً أن مشاركة حزب الله داخل سورية وفي مدينة تعتبر بعيدة وفي احتفال ديني وبتمثيل أعلى قياداته أمر يثير علامات الاستفهام، فالمفترض أن تكون مشاركته في السيدة زينب كبرى التجمعات الشيعية، أو في العاصمة دمشق، لكن اختيار حلب أمر له دلالته التبشيرية، خصوصاً إذا علمنا أن هذا الحفل تضمن احتفاء بإعلان 60 عروسا شيعيا في زواج جماعي هو الأول من نوعه في حلب التي لم تشهد قبل هذا التاريخ زواجاً جماعياً قط!، واللافت للانتباه أن هذا الزواج ممول من قبل»الحكومة الإيرانية«على حد تصريح الخطباء في المهرجان!، لا شك أن هذا الاحتفال في ظروف بائسة وصعبة للغاية في صفوف الشباب الفقراء، وارتفاع معدلات البطالة وسن الزواج في مدينة تعتبر الأكثر تشدداً في الزواج أمر لا يخلو من دعوة تبشيرية أبداً.

رفع السوريون أعلام حزب الله في بيوتهم، تلك التي وزعت عليهم في الشوارع العامة من قبل أفراد أجهزة الأمن العسكري والسياسي غالبا، وألصقوا الصور على سياراتهم وفي الحافلات العامة، وهي تتضمن دعاءً بالنصر لـ»نصر الله«، وأخرى تقرن بين صورة بشار الأسد وصورة نصر الله، ووراءهما علما سورية وحزب الله، وليس علم لبنان!.

لم يجد السوريون غضاضة في ذلك، كان الأمر حماساً لانتصارات عسكرية والدفاع عن شرف الأمة المتبقي، وهي تبقى في نظرهم مسألة سياسية وقومية عليا لا شأن للاختلاف الديني الطائفي فيها؛ بل إن السوريين أثبتوا أنهم غير طائفيين، فعلى الرغم من الحرب الطائفية الدائرة في العراق، والتحالف الخفي بين الحكومة الشيعية وميليشيات»جيش المهدي«و»قوات بدر«مقابل»تنظيم القاعدة«والذين يتم على أيديهم الترحيل المنظم والمجازر الفظيعة ضد إخوانهم»السنة«العراقيين، إلا أنهم كانوا أعلى من الأحقاد الطائفية وتحمسوا لنصرة حزب الله في معركته مع الإسرائيليين كل الحماس.

 


نقد حاد


انتهت الحرب منذ 11 أغسطس 2006 تاريخ قرار مجلس الأمن 1701، وخلال الحرب بقدر ما لقي حزب الله حماساً لـ»بطولاته«الميدانية المشرفة، لقي نقداً حاداً لجره المنطقة إلى حرب غير محسوبة العواقب، خسر حزب الله المعركة حسابياً (بعدد القتلى الذي تجاوز الألفين، وبتدمير هائل للبنى التحتية، لكنه ربح معنوياً، وقليلة هي المرات التي ينفصل فيها الربح المعنوي عن الربح الحسابي (شأن حرب أكتوبر 1973)، وما إن خرج الحزب من معركته مع الإسرائيليين، حتى راح يحصد انتصاره تبشيرا شيعيا، وفي الوقت نفسه ذهب ليعمل بجد لرأب الصدع الذي نال صورته جراء انتقاد النخب السياسية والثقافية العربية، والتي وصل صداها بشكل أو آخر إلى إخوانه من الشعب السوري الصديق؛ فبعد أقل من أسبوعين، جابت قيادات حزب الله المدن السورية وأريافها؛ لتتحدث عن الانتصار الذي حققته المقاومة، وأنه أول انتصار عربي تاريخي في الصراع مع العدو الإسرائيلي، بالرغم من عدم تكافؤ القوى أساساً.

استطاع منتقدو حزب الله أن يقللوا من مكانة حزب الله الرفيعة في عيون الجماهير، فالحماس له بدأ يأخذ بالفتور لدى شريحة واسعة جداً، بجوار حديث متصاعد ومتوتر عن حملات تشييع في سورية، وقد أثبتت التقارير أن أداء حزب الله استثمر بقوة في التبشير، وأنه أصبح العبور للخط الفاصل بين الطائفتين، ليس له علاقة بالدين بقدر ما يتعلق بدور حزب الله في حالة الاستقطاب السياسي في الشرق الأوسط بعد حرب يوليو 2006، وصار ملالي الشيعة في السيدة زينب يتحدثون عن استقبال عشرات السنة السوريين الراغبين باعتناق التشيع، وهي في الغالب مبالغة دعائية لحزب الله الذي بدأت صورته بالتآكل مع تصدع الصف العربي والإسلامي خلفه.

في صبيحة السبت اليوم الأول لعيد الأضحى 1427 الموافق 30 ديسمبر 2006 أعلن عن إعدام صدام حسين، وبثت قناة العربية مقاطع من عملية الإعدام.

 


معركة الحوزات


ما بين عام 2001 وحتى عام 2006 أنشئ في قرية السيدة زينب أكثر من 12 حوزة شيعية، و3 كليات للتعليم الديني الشيعي، أي أنه خلال 6 سنوات فقط تم إنشاء ثلاثة أضعاف ما أنشئ خلال ربع قرن! وحصلت أول جامعة إسلامية شيعية متخصصة بالعلوم الدينية على ترخيص أمني وليس ترخيصاً قانونيا للعمل داخل الجمهورية العربية السورية في 2003.

وبما أن التعليم الديني في سورية يخضع لإدارة قسم التعليم الديني في وزارة الأوقاف، فإن الحوزات التي انتشرت كالفطر في السيدة زينب قررت أن تخرج عن رقابة الأوقاف، وأسست ما أسمته مديرية الحوزات التعليمية، وحصلت على موافقة الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، وباشرت عملها في 2005، وأرسلت أول كتاب لها إلى إدارة الهجرة والجوازات في 16 أغسطس 2005 للموافقة على اعتماد خاتم مديريتها كونها الجهة الوحيدة المخولة بمخاطبة إدارة الهجرة والجوازات.

في مستهل 2005 قرع الملك الأردني عبدالله الثاني جرس الإنذار من قيام هلال شيعي يمتد من خراسان شرق إيران مروراً بالعراق وسورية ولبنان حتى حوض الأبيض المتوسط، تبعه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل.. أثار الحديث السياسي عن الهلال الشيعي اهتمام المحللين السياسيين، لكن الاهتمام بقضية التشييع لم تكن بعد من متداولات التحليل السياسي، فقد كانت المسألة مسألة علاقات قوة ومحاور سياسية في نظر المحللين.

بدأ النقاش الصامت عن التبشير الشيعي في سورية يخرج إلى العلن عندما انتقد المحامي السوري هيثم المالح (رئيس الجمعية السورية لحقوق الإنسان) افتتاح العديد من الحوزات الشيعية في سورية، وإقامة النشاطات، وإجراء الاجتماعات بدون مساءلة، فضلاً عن نشاط عدد من الشيعة الإيرانيين في البلاد، وتغاضي الحكومة السورية عنهم، في حين يستمر الضغط على خطباء المساجد السنة، ويستدعون إلى أجهزة الأمن بشكل متكرر، وكشف المالح عن التمييز والازدواجية اللذين تمارسهما السلطات متسائلاً: هل هذه الازدواجية في تعامل الأجهزة الأمنية مع الشرائح العديدة من التيار الإسلامي محض صدفة؟ أم وراء الأكمة ما وراءها؟ وهل نستطيع أن نستشف أن هناك اتفاقا ضمنياً بين الدولة الإيرانية والنظام في سورية لوضع التسهيلات أمام الوافدين من إيران بغية مد جسور الثورة من هناك إلى المجتمع السوري وتحويله من السنة إلى التشيع على الطريقة الإيرانية؟.

وبما أن الإخوان المسلمين جماعة دينية وسياسية في الوقت نفسه، فقد كانت لهم حساسيتهم الخاصة للجانب الديني في قضية الهلال الشيعي، فما إن بدأ الحديث السياسي عن الهلال الشيعي حتى أخذ يتردد على ألسنة قياداتهم منذ نهاية 2005 الحديث عن حملات التشييع في سورية، لكنهم ما أعلنوا تحذيراتهم واستنكارهم حتى ما بعد منتصف عام 2006، وذلك بعد تصريحات المالح، وبعد أن نشرت»مجلة الوطن العربي«تقريراً صحفيا مثيرا عن»إستراتيجية نشر التشيع في سورية«، أكد أن حالات اعتناق المذهب الشيعي شهدت مؤخراً تزايدا بالآلاف (...) وسط صمت رسمي كامل، سادت قناعة في أوساط السوريين المطلعين بأن ثمة تشجيعا رسميا خفيا ومعلنا لهذه الظاهرة، ووصل البعض على حد وصفها بأنها سياسة رسمية للنظام مبنية على حسابات مستقبلية»! وأن عملية التشييع تأتي – حسب التقرير – في سياق تقوية المحور الإيراني السوري.

تحدث معظم المعارضين السياسيين السوريين عن حملات التشيع في سورية، وأنها تزيد الاحتقان الداخلي، وأكدوا أن البعد الطائفي واضح وظاهر في سياسة إيران تجاه المنطقة، وأن كل ما يجري من حركة تشييع في سورية هو محاولة لإثارة البلبلة من أجل تغيير تركيبة المجتمع السوري».

هذه التصريحات المتوالية أثارت مشاعر السوريين ولفتت انتباههم إلى التبشير الشيعي؛ ولأول مرة في تاريخ الدولة السورية يصبح موضوع التشييع موضوع هواجس شعبية.

 


نقلات مؤثرة


3 مرات تضاعف عدد الحوزات في سورية بين عامي 2001 و2006

 


12 حوزة شيعية بنيت في سورية خلال 5 سنوات

أطلقت خلال هذه الفترة 3 كليات للتعليم الشيعي

عام 2003 حصلت أول جامعة شيعية على ترخيص أمني وليس قانونيا للعمل