لم ترض آيا صوفيا بموقف الحياد على مر هذه السنين الطويلة، فلم تزل تجتر الماضي وتعيد ذكريات النصر والهزيمة على الدوام، فجراح الماضي لم تشف والعظام المهيضة لم تجبر بعد.

آيا صوفيا الكنيسة التي تحولت إلى مسجد في عصر السلطان العثماني محمد الفاتح ومن ثم إلى متحف، ودامت على حالتها مزارا سياحيا يمنع فيه أداء الصلاة حتى يومنا هذا، ولا يدخله السياح، كبارا أو أطفالا، إلا بعد دفع قيمة تذكرة الدخول.

ملف آيا صوفيا كان دائما مثيرا للجدل، بداية من تحوله إلى مسجد على يد محمد الفاتح، فالقسطنطينية سقطت بالحرب وليس بالسلم، وهذا يعطي الفاتحين الجدد الحق في امتلاك كل ما فيها ومن فيها، ولذا فإن المعاملة ستختلف عن معاملة المسالم من وجهة نظر السلطان العثماني.

واستمرت آيا صوفيا منذ عام 1935 حتى يومنا هذا بوضعها الحالي، متحفا محايدا، يمنع فيه أداء أي شعائر دينية، وتحول المتحف إلى واحد من أكثر الأماكن السياحية التي تستقبل السياح طوال العام، مما يعني أرباحا ضخمة تجنيها الدولة من بيع تذاكر الدخول للموقع الأكثر إثارة للجدل في تركيا.

يقول أحد المسؤولين الأتراك عن شؤون الآثار: «إن تم تحويل آيا صوفيا إلى متحف فإن القيمة السياحية لإسطنبول سوف تتضاعف» فكان التوجه إلى تحويله إلى متحف طمعا في الأرباح المتوخاة، يفسر هذا الاستمرار للحالة المحايدة لآيا صوفيا، رغم الأصوات المتصاعدة دائما بإعادة آيا صوفيا إلى مسجد كما كان.

وينظم الشعب التركي بين الحين والآخر احتجاجات في الساحات المحيطة بالمتحف للمطالبة بكسر القيود المفروضة على آيا صوفيا وإعادتها إلى مسجد، لأن آيا صوفيا رمز للتاريخ العثماني وفتح إسطنبول، وعدم اتخاذ هذه الخطوة يعني أن الفتح غير مكتمل.

تتظاهر الحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية بالاهتمام بقضايا المسلمين ولكنها تقف عاجزة عن أهم قضية دينية في بلادها وتتجاهل مطالبات شعبها المتكررة بخصوص هذه القضية المعلقة منذ عقود من الزمن، وآخرها تلك الاحتجاجات التي نظمتها «جمعية شباب الأناضول» أمام المتحف بمناسبة الذكرى السنوية لفتح القسطنطينية ومرددين شعار: اكسروا السلاسل افتحوا آيا صوفيا.

والمتابع للشأن التركي يلحظ اهتماما حكوميا باستعادة أمجاد التاريخ العثماني، نتج عنه دفع الميزانيات الضخمة في إنتاج مسلسلات تحكي تاريخ رموز وأبطال الدولة العثمانية، في حين أنها تغض الطرف عن أهم قضية تمس التاريخ العثماني وهي قضية آيا صوفيا أيقونة فتح القسطنطينية، الحدث الأبرز في تاريخ الدولة العثمانية على الإطلاق.

لا تبدي الحكومة التركية أي حماس للتعامل مع ملف آيا صوفيا بشكل جاد، بل تكتفي بالتلويح لتغيير هويته عن طريق شعارات رنانة وتصريحات شعبوية فارغة عند حاجتها إلى أصوات ودعم شعبي، فبالنسبة للحكومة التركية آيا صوفيا ليس كنيسة أو مسجدا، إنما متحف محايد تستعمله كورقة للمساومة ووسيلة لتنشيط سياحتها وتحصيل الأرباح المادية لتغذية خزينة الدولة.

تركيا اليوم أمام تحد حقيقي لإثبات سيادتها على كل ما يقع داخل أراضيها، وهي أمام مفترق طرق، إما طريق محمد الفاتح أو طريق كمال أتاتورك، أو تظل آيا صوفيا محل جدل ونزاع سياسي واجتماعي مع كل مرحلة من مراحل التغيير في تركيا.