«لا تجعلها تقف عندك»، عبارة يذيل بها البعض رسائل برامج التواصل الاجتماعي مثل واتساب وغيرها، مثلها مثل عبارة «انشر تؤجر»، في دعوة للآخرين لتبادل هذه الرسائل وتشجيعهم على نقلها، ولكم تخيل لو أن شخصا أرسل رسالة مذيلة بما سبق لعشرة أشخاص على أقل تقدير، ثم قام كل واحد من هؤلاء العشرة بمثل فعله، وهكذا في متوالية لا تتوقف، سيصيبك الذهول عند محاولة تخيل عدد من ستصلهم هذه الرسائل، كذلك سيصيبك الذعر عندما تقرأ بعضها وتحاول تخيل كم المتأثرين بها.

لكن الذعر الحقيقي هو في إدراك كيف يقوم البعض بنشر وتداول هذه الرسائل، دون تأمل حقيقي لمحتواها، أو محاولة التيقن من صدقها وخلوها من التلفيق أو التدليس أو الكذب أو حتى المغالطات، ودون سبر للهدف من ترويجها.

القيام بترويج هذه الرسائل دون التحقق مما فيها، هو سلوك يتبعه الكثير من الناس، ويحتاج دراسة نفسية جادة، لما في ذلك من سلوكيات بالغة الدلالة على أزمات وعي عميقة، وغاية في الخطورة، خاصة في أوقات الأزمات.

كيف تفسر تناقض سلوك الكثير من الذين تصلك رسائلهم مع ما هو مدون فيها ويدعون إليه!

أفراد يدعون الوطنية، ثم يتناقلون رسائل تحمل إشارات مبطنة تنتقل للاشعور، لتصيب المواطن بأمراض اليأس أو التذمر أو الاكتئاب أو النقمة على الوطن ومنجزاته!

أفراد يدعون التدين والوسطية، ثم يتناقلون رسائل تفيض بالأفكار المتشددة والمقصية لكل مختلف معهم فكريا أو مذهبيا!

نساء يدعين الدفاع عن حقوق المرأة ثم يتبادلن رسائل الاستهزاء بالمرأة أو التنقص من قدراتها أو تعمق للفكر الذكوري العنصري ضد حقوق النساء!

رجال يدعون الغيرة والحمية والشرف ثم يتبادلون رسائل تتنقص قيمة وقدر أخواتهن أو أمهاتهن أو زوجاتهن، وتحرض ضدهن وتتهمهن بأقذع الألفاظ وأقذر التلميحات!

تُفاجأ وكثيرا من هذا السلوك، الذي لا يعبر إلا عن الانفصام، ولا يثير إلا الاشمئزاز أو الشفقة تجاه مرتكبيه!

...

ما دفعني لكتابة ما سبق، ومقالي السابق «انشر تؤجر» هو رسائل وصلتني كما وصلت لغيري، تحمل تعريضا بالقرار الملكي القاضي بالسماح بقيادة النساء، وتعريضا واتهامات قذف أو قدح في سلوك كل امرأة تقود سيارتها، أو رجل يسمح بذلك لزوجته أو ابنته، ويتهمون القرار بأنه سبيل للتغريب ولتفكيك المجتمع والنيل من شرف النساء.

المضحك أن بعض من يتداولون هذه الرسائل، يرتدون في واقعهم أقنعة التجديد والوسطية أو الوطنية والانفتاح..

للأسف لا يدركون أن مثل هذه الرسائل هي قذائف مسمومة ضد الوطن، حيث تحمل بذور خيانة للوطن من حيث قيامها بالتشكيك في حكمة قيادته وسعيها نحو التطور والرقي بالمجتمع، وهي تحمل بذور خيانة للمجتمع من حيث تحمل التشكيك في سلوكيات نسائه أو أخلاقياتهن، وتستعدي الرجال ضد النساء وحقهن في التنقل والقرار والخيار وفق رغباتهن أو احتياجاتهن، وهي تحمل بذور خيانة للدين من حيث هي تحمل التشويه لقيم الوسطية والسماحة التي يدعو لها دوما، والاستعداء ضد التعددية الثقافية والحريات الشخصية التي أقرها هذا الدين العظيم.

ربما يفعل البعض ذلك قاصدا عمدا تفكيك اللحمة الوطنية والإضرار بالسلم الاجتماعي، والتأليب ضد منهج الدولة في التطوير، لكن بصدق أعتقد أن الكثير ممن يفعل ذلك، يفعله من قبيل السذاجة والجهل بكل تلك الأبعاد الخطيرة أمنيا وفكريا واجتماعيا.

هو يفعله كنتيجة لأدلجة سابقة كانت أيام الصحوة، عبّأته عداوة ضد الآخر المختلف، ووجهته نحو الاتباع الأعمى لكل فكر يحمل مظاهر التشدد أو يرعى فكرة المؤامرة والمظلومية.

هذه الأدلجة تستمد قوتها في نفوس الكثير من شعور الذنب الذي حرصت القوى الظلامية الفكرية على ترسيخه في نفوسهم، وذلك عبر اعتماد الرأي الواحد والصوابية المطلقة، ونفي التعددية الثقافية والفكرية والفقهية والمذهبية، التي هي سنة الحياة، فيحاول هؤلاء الأفراد كنوع من التكفير عن سلوكهم البشري الطبيعي المختلف عما تروج له هذه القوى، إلى الوقوع في فخ الانفصام بترويج هذه الرسائل التي لا تعبر عن واقعهم..

هم يرون في ذلك نوعا من التكفير عن وقوعهم فيما تعتبره هذه القوى «خطايا».. وهم من حيث لا يشعرون يقعون في «مقت الله» الذي وصف من يخالف قوله سلوكه بقوله عز وجل «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»..

...

لا تستهينوا أبدا بهذا السلوك الانفصامي، ولا تستهينوا أبدا بالرسائل المبطنة التي تنفذ إلى اللاوعي من خلال هذه الرسائل المعلبة، ولا تكتفوا بأن تجعلوها تقف عندكم، بل لا تترددوا في زجر من يرسلها، والتبليغ عنه لدى الجهات الأمنية بوصفه عامل إضرار باللحمة الوطنية والاجتماعية..

تذكروا أن عبارة «انشر تؤجر» مغلوطة.. الحقيقة هي أنك بنشرك هذا الفكر الظلامي التحريضي «توزر».