لا تزال الصحف والوكالات ومواقع الإنترنت الأميركية تواصل تغطية أخبار الطالبين المبتعثين في الولايات المتحدة، ذيب بن مانع اليامي وجاسر بن دهام آل راكة، اللذين استشهدا خلال محاولتهما إنقاذ طفلين من الغرق بأحد الأنهار، في مشهد قدم الصورة الحقيقية لما يحمله المواطن السعودي من مروءة ونخوة واستعداد لتقديم المساعدة والنجدة لمن يستحقها، مهما بلغ الثمن، ومهما كان حجم التضحية.

جسَّد ذيب وجاسر أروع معاني الإنسانية والتضحية، وقدما خدمة جليلة لبلادهما، لأن الفعل النبيل الذي قاما به لامس وجدان الشعب الأميركي والعالم قاطبة وقيادته بصورة مباشرة، وأسهم في تشكيل رأي عام إيجابي عن المسلمين بصورة عامة وأبناء المملكة خاصة، فاستشهادهما خاطب الإحساس الشعبي العام، وأوصل رسالة في غاية الوضوح، مفادها أن الطلاب المبتعثين ليسوا مجرد أشخاص باحثين عن العلم -رغم نبل هذا المقصد- بل هم أفراد يحملون روحا إيجابية، ويتمتعون بأرقى الأخلاق، ويمتازون بقيم شارفت على الانتهاء عند الآخرين، مثل الشهامة والشجاعة، كما أبانت أن العربي المسلم لا يحمل في دواخله كرها للآخر ولا ضغينة له، فأي حب أكبر من أن يقدم الإنسان حياته ثمنا لإنقاذ أطفال الغير؟

خلال الفترة الماضية تعرض كثير من الطلاب المبتعثين في الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية إلى حملات تشويه مكثفة لصورتهم، ودرج كثير من الصحف ومواقع الإنترنت على افتعال وتضخيم حالات فردية وحوادث استثنائية لبعض الطلاب الذين وجهت لهم تهم جنائية، وتصويرها على أنها مفاهيم راسخة في نفوس السعوديين والعرب، ووقفت جهات معروفة وراء تلك الافتراءات، بل إن بعض الجامعات الغربية انساقت -للأسف- وراء تلك الحملات المضللة، وترسخت لدى مسؤوليها صورة ذهنية سالبة عن أبنائنا، فمارسوا قدرا كبيرا من التعنت معهم، بل إن بعض أساتذة تلك الجامعات تعمد عدم منحهم درجات النجاح التي كانوا يستحقونها. لذلك فإن الحادثة الأخيرة سوف تصحح حتما هذا الوضع، وتعيد لمن تعرضوا إلى الظلم حقوقهم.

وكما ذكرت فإن مهمة طلابنا المبتعثين لا تنحصر في مجرد التحصيل الأكاديمي فقط، بل في تقديم صورة مشرقة عن بلادهم، وتشكيل حائط صد ضد الترهات التي يحاول البعض إلصاقها بالدين الحنيف والدول العربية عامة والمملكة بشكل خاص، لأنها كبيرة العرب ومهد الحرمين وأرض الرسالة، فقيام ذيب وجاسر بتلك المهمة أتى بفعل استحقا عليه الإشادة والثناء. فالرأي العام الشعبي يشكل أحد أبرز وسائل اتخاذ الرأي في الولايات المتحدة والدول الغربية، وقد تفاعل قطاع كبير من الأميركيين مع حادثة الغرق، مما دعا الإدارة الأميركية إلى الإشادة بهما بصورة رسمية، وتقديم العزاء لعائلتيهما.

وإذا كانت الدول تنفق مئات الملايين من الدولارات على تحسين صورتها في الخارج، أو لتصحيح مفاهيم أو أفكار مغلوطة، وتنتظر في سبيل تحقيق أهدافها فترات طويلة، فإن ما قام به الشهيدان من عمل بطولي اختصر كل ذلك، بل إن تصرفهما الذي تم بصورة عفوية، وكان دافعه الأساسي هو ما تشبعا به من قيم نبيلة وأخلاق إسلامية صحيحة، وما تربيا عليه وتعلماه من تقاليدنا العربية الأصيلة التي تحض على نجدة الملهوف وإغاثة المحتاج، ستكون له آثار إيجابية كبيرة في المستقبل القريب، لأن غالبية أفراد المجتمع الأميركي تناقلوا تلك الحادثة بكثير من التعاطف معهما، بل إن مدير الجامعة التي يدرسان بها أعلن عن اتجاه إدارته لإطلاق اسميهما على أكبر القاعات الدراسية في الجامعة، لتخليد سيرتهما وإبقائها نبراسا للأجيال المقبلة، فأي تكريم لبلادنا أكبر من ذلك؟

وبعيدا عن منطق التعاطف اللحظي أو الانفعال الوقتي فإنني أرى أن من الواجب إعلاء مشاعر الفخر والاعتزاز، فأمثال ذيب وجاسر لا يموتون، بل هما في جنات الفردوس يحبرون، فالله تبارك وتعالى لم يقل إن من أحيا نفسا مسلمة كمن أحيا الناس جميعا، وجاءت الآية الكريمة شاملة لكل الأنفس البشرية، دون تحديد لديانة صاحبها أو جنسيته أو لونه، لذلك فإن سيرة شهيدينا الرائعة وعملهما البطولي هو مدعاة لأن نرفع رؤوسنا بجميل صنيعهما، وأن نباهي الكون بأكمله بأن البلاد التي أنجبت مثلهما تستحق الاحترام والتقدير، وأن تنحني لها الهامات.

قطعا لسنا ملائكة، ولا ندعي الكمال، ولا نزعم أننا مبرؤون من العيوب، فنحن كغيرنا من بني آدم، خليط من الخير والشر، لكني أجزم بأن عناصر الخير التي نحملها في دواخلنا، وما تعمر به قلوبنا من فضائل، وما نحرص عليه ونعتز به من أخلاق وقيم وثوابت كفيل بأن يعكس للآخرين صورتنا الحقيقية. لذلك فإن علينا الاهتمام بتعزيز مثل هذه السلوكيات الحميدة بصورة أكثر في نفوس أبنائنا الطلاب، لا سيما المبتعثين منهم، وأن يشعر كل منهم بأنه سفير لبلاده ومليكه في مكان دراسته أو عمله، والمسؤول الأول عن عكس تلك القيم وتأصيلها في نفوس من يتعامل معه. فلدينا الكثير الذي يمكننا استغلاله والاستفادة منه كي نخدم بلادنا ونعلي شأنها.