خلق الله الإنسان لعمارة الأرض بالتوحيد والعمل، وجعل ذلك شرطا للحياة الطيبة، كما قال تعالى في محكم التنزيل: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، وأدرك المسلمون الأوائل هذه الحقيقة واستوعبتها عقولهم وقلوبهم، فكانت النتيجة الطبيعية أن غمرت شمسهم العالم بالخير والسلام.

ثم تعاقبت القرون والأحداث إلى عهدنا الحديث، حيث انقسم بعض الناس إلى فريقين: فريق العمل بلا توحيد، وفريق التوحيد بلا عمل، وسموهم أنتم ما شئتم من المسميات الحديثة، وكلا الفريقين غير قادر ولا مؤهل لعمارة الأرض على الوجه الذي ينبغي.

ومنذ أن كنت صغيرة، وأنا أسمع الآخرين يتحدثون عن حقوقهم على الوطن، لكني لم أكن أسمع شيئا عن حق الوطن عليهم، حتى ظننت الوطن بلا حقوق، وهم في ذلك أشبه ما يكونون بالطفل الذي يظن أن مهمة والده الوحيدة في الحياة هي الدفع والصرف، لدرجة أنه إذا أمسك بالهاتف ليحدثه وهو مسافر أو في مكان بعيد قال له بدون مقدمات: بابا.. أحضر لي كذا وكذا، وأريد كذا وكذا، ولا تنس أن تشتري لي كذا وكذا، دون أن يعبّر له عن مشاعره الجميلة تجاهه، بينما تكون محادثته مختلفة تماما للأم التي يراها وجهة للحب النقي البعيد عن الماديات، لكن الوطن ينبغي أن يكون أُمّا، تربطنا به المشاعر العميقة أكثر من مسألة الحقوق والواجبات، وأن نكف عن اعتبار الالتزام بالدوام الرسمي هو خدمة للوطن، ونتوقف عن المفاخرة بذلك.

فهل مجرد حضوري إلى موقع عملي في الوقت المحدد، وبقائي فترة الدوام، وانصرافي مع آخر دقيقة، هو خدمة للوطن؟!

أعتقد أن الجميع يفعل ذلك، لأن هذا هو عمله ومصدر رزقه، وتقصيره قد يسبب له المتاعب، ويعرض مستقبله الوظيفي للخطر، فأداء الأعمال التي نتقاضى عليها أجرا ليست مدعاة للتفاخر، ما لم نتفان ونتفنن في أدائها، وهو المعنى العميق لمفهوم الإحسان، والإحسان هو المرتبة الأعلى من مراتب الدين.

ولا أعلم كيف استطاع البعض أن يفصل بين كونه مسلما صالحا ومواطنا صالحا، لأن المسلم الجيد مواطن جيد بالضرورة، والعكس صحيح، فتصبح المعادلة كالتالي:

كلما كان الشخص أكثر تديُّنا وأكثر التزاما، كان أكثر خدمة لوطنه، لأنه يؤدي جميع أعماله الرسمية وغير الرسمية بإتقان تام، محتسبا الأجر في كل ذلك، وماذا يريد الوطن منا غير الإتقان؟!

فتخيلوا كيف ستصبح بلادنا، إذا أدى جميع المدنيين والعسكريين والمسؤولين وعامة الشعب جميع أعمالهم ومهامهم المنوطة بهم بكل إتقان وحب وتفان وتفنن، وهو عكس الاعتقاد السائد عند بعضهم أن حب الوطن يتعارض مع التدين والالتزام، ولا أعرف ما مصدر ولا مسوغات هذا الاعتقاد الغريب، فالإسلام يحرّم الغش والخيانة والخداع والإفساد في الأرض، بكل صوره وأشكاله، ومهما كانت دوافعه ومبرراته، ويرفض التهاون والتقصير والتقاعس والكسل، بل إن الله سبحانه وتعالى توعّد المطففين في سورة عظيمة من سور القرآن الكريم، وافتتحها بالوعيد الشديد الذي اختصت به كلمة «ويل» في قوله تعالى: «ويل للمطففين»، والمطففون هم الذين يحرصون على استيفاء حقوقهم كاملة، ولكنهم يقصرون في أداء ما عليهم من واجبات.

إن العلاقة بالوطن لا تختلف عن بقية العلاقات الإنسانية، يجب أن يسودها الود والاحترام المتبادل والأخذ والعطاء والحرص على المصالح، والتضحية أحيانا، فمقابل أن يكون لك وطن يجب أن تكون أهلا لذلك، وتستشعر هذه النعمة وتشكرها بكل أدوات الشكر المتاحة، فالحبل عندما لا تشده قوتان بالعزم والقوة كليهما يرتخي ويسقط، والأرجوحة عندما لا تتوازن فيها قوتان لا تعمل.

وقد قرأت مؤخرا عبارة جميلة تقول: إن السر في انتظام المصلين في صلاة الجماعة، وظهورهم بذلك المنظر الجماعي الجميل، هو أن كل فرد يبدأ بنفسه، ويلتزم بما عليه بكل دقة واهتمام، وهكذا الوطن سيكون أجمل لو التزم كل مواطن بما عليه من واجبات، وأداها كما يليق به كمواطن صالح.

إن حقيقة الخلود إلى وطن يحميك ويحتويك، ويضم رفات أجدادك وأحلام أحفادك التي تنعم بها، هي أصعب وأروع حلم يمكن أن يداعب كل ليلة خيال ملايين البشر المشردين بلا أوطان على وجه هذه الأرض.