عُرف الصنائعي عند العرب منذ القدم بالمنزلة الأقل في المقامات الطبقية الاجتماعية، لكنه أعلى من الخدم والعبيد، وقد تجنّب العرب على مر التاريخ الانخراط في مهن الصناعة، وتركت هذه المهمة لآخرين من أمم أخرى، أو من كان مضطرا للقيام بهذه المهمات الصناعية المنهكة من جهة، والتي تحتاج إلى إعمال عقلي وجهد عضلي كبير، مثل صياغة المجوهرات التي تخصص فيها اليهود، والحدادة، وصناعة آلات الحرب والنجارة.

الصناعة في اللغة، حسبما نقلته المعاجم اللغوية، هي «كلُّ عِلم أَو فنّ مارسَه الإنسان حتى يمهر فيه ويصبح حرفة له»، وهي حرفة الصانع بالضرورة، وقد تجنّب الأعراب الانخراط فيها، غير أنهم تفننوا في صناعة الشعر وإلقائه، أما سواه فكانوا يعدّونه دوما في مراتب أقل، وهي من أعمال السُخرة.

لذلك، لا غرابة أن يمتد التخلف العربي على مستوى الصناعة والتصنيع وما يدور في فلكها، وتمتد معها بالتالي ثقافة المعايرة تجاه كل «صنائعي عند العرب».

المشكلة اليوم، أن جزءا كبيرا من العرب ما زالوا يسكنون في هذا المدار المتخلّف، على الرغم من تحوّل العالم إلى الصناعة منذ قرون، وتصدّرهم ريادة العالم والسيطرة عليه عبر الصناعة، حتى إن القرن الثامن عشر عُرف بعصر الصناعة، إذ امتدّ عصر الثورة الصناعية في الفترة الواقعة بين عام 1760 وحتى 1840.

لقد ظلّ العرب تحت وطأة عادات القبيلة التي تكتفي بامتداح أملاكها وقرار بعضها في المكان وسط تزايد قطعانها من الماشية، وهو ما توارثته على مدار قرون.

اليوم، وعلى الرغم من اختلاف الوضع وتطور العالم، إلا أننا نجد عددا لا بأس به من العرب ما زالوا يعيشون في القرون المتخلفة للإنسانية.

فهم يعتقدون أن كثيرا من المهن في المجال الصناعي لا تليق بمقاماتهم، حتى وهم فقراء ماديا، إضافة إلى الفقر الفكري والعلمي، لكنهم لا يرون ذلك.

هذه الفكرة الصغيرة عن الصنائعي كوّنت مجتمعات فقيرة على مستوى الإنتاج الصناعي، وكرّست الاعتماد على الآخر دائما، ووضعت مجتمعاتنا العربية في مؤخرة قوائم المنتجين والمصنّعين، وأخرجت أجيالا من العاطلين عن العمل، وما زالت تفعل ذلك بكل أسف.

شاهدتُ مثل هذه النوعية في عدد لا بأس به من الدول العربية، حتى تلك التي ترتفع فيها معدلات الفقر والحاجة، الفكرة واحدة مع اختلاف الشكل والملبس بينهما على مستوى الأفراد.

اليوم، تقوم في أنحاء من الوطن العربي عدد من المبادرات التي تسعى إلى كسر هذه النظرة المتخلفة للصنائعي، لإدراك قاعدة جيدة من المجتمع أن العيب يكمن في قرار البطالة وليس الانخراط في الأعمال التي يقوم بها الصنائعي «سباكة، نجارة، حدادة، ميكانيكا، كهرباء، بناء، بنشر»، والتي يراها العربي بعين الاحتقار!

لقد أثبتت الأيام أن التحولات الاقتصادية هي من تعطي الأشياء قيمتها والمراكز قوتها، وقد جاء الوقت الذي انقلبت فيه المعادلة لمصلحة الصنائعي، وبات هو الأكثر طلبا في حياتنا اليومية أكثر من غيره، بفعل استخداماتنا المتعددة للأدوات الكهربائية والآلات التكنولوجية، من سيارات وطائرات وقطارات، وغيرها من وسائل النقل والتقنية، وهذا يجعلنا نعيد النظر في رؤيتنا للصنائعي والمهن الصناعية، وإلا فإننا سنظل في ذيل القائمة على مستوى المجتمعات البشرية المسهمة في بناء الحضارة.

تُرى كم بقي بيننا من المتخلفين الذين يرون في عمل الصنائعي عيرة؟ في الوقت الذي بات فيه الصنائعية يتحكمون في طريقة حركة العالم، وسرعة الحياة في المجتمعات؟!