ليأذن لي القارئ الكريم أن أبدأ مقالتي هذه بالجملة التي ختمت بها المقالة السابقة «العدالة مع حزب العدالة»، فأقول: من وجهة نظر مراقب من بعيد، فإن حزب العدالة والتنمية هو الخيار الأنسب للشعب التركي، وهو القادر على العبور به في هذا المستقبل القريب.

نعم، هو الخيار الأفضل لتركيا وحسب، أما أن يكون خيار الأمة الإسلامية فغير صحيح، ومحاولة الترويج لهذا المفهوم أمر خطير، وليس في صالح تركيا، ولا المسلمين.

فهو الأصلح لتركيا من جهة أنها كانت تُطَبِق من عهد مصطفى كمال الذي ما زالت الدولة هناك تسميه أتاتورك، مع أنه ليس تركيا، فضلا عن أن يكون أبا للأتراك.

كانت تطبق علمانية منقوصة، تُعْطَى فيها جميع طوائف المجتمع وتوجهاتها الفكرية ما يرون أنه حقها من الحرية، ويُحرم من ذلك المتدينون المسلمون السنّيون في أبسط حقوقهم، وهو حجاب نسائهم، وجاء حزب العدالة وأكمل ما بدأه عدنان مندريس، وتورجوت أوزال، من توسيع نطاق العلمانية وجَعلِها تشمل الجميع، وإعطاء الحرية الدينية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية للكل، حتى دُعَاة العريِ والعهر بجميع أشكاله على النمط نفسه الجاري في كثير من الدول الأوروبية، كألمانيا وهولندا والسويد.

ومن يُكَذِّب ذلك، إما أنه يخادع نفسه أو يخادع الناس، ولن أنشغل بمناقشته، والواقع والمستقبل القريب كفيل بالرد عليه.

وكثير من الأتراك يرون ذلك تقدُّما يُمْكِنُهم خلاله العمل على دعوة الناس وتغيير مفاهيمهم وأخلاقهم، والعودة بهم إلى جادة الصواب، ومن هذه الجهة فهذا أمر جيد وإيجابي حقا، ورأينا منه صورا طيبة كرعاية تدريب الأطفال على الصلاة، وحفظ القرآن، والدروس الدينية، وتوزيع الكتب الإسلامية، وإن استمر تمكينهم فعلا من ذلك فربما يؤتي ثمارا لا بأس بها، مع أنه تقابلها تراجعات في قضايا أخر، يفرضها التزام العلمانية ودعاوى الحريات.

كما أنهما -العدالة وزعيمهم- أيضا مناسبان للأتراك من حيث النهوض المادي والاقتصادي والخِدَمي في البلاد، والذي تَقَدَّم به الحزب شوطا كبيرا.

ولا شك أن البديل -لو لم يفز حزب العدالة- أحزاب يغلب على الظن أن قصارى ما ستفعله العودة بتركيا إلى ما قبل 2002 ليس غير.

وقلت إنهما خيار تركيا الأنسب للمستقبل القريب، لأن المستقبل البعيد في هذه الظروف يتعذر استشرافه، كما أن المعطيات لا تُقَدِّم مؤشرات إيجابية للمستقبل التركي البعيد للأسف، ومن تلك المعطيات: أن الديون هي أعظم ما يعوق تقدم الدول، لا سيما الديون القائمة على الربا، وتركيا حزب العدالة قد عالجت جزءا كبيرا من مشكلاتها الاقتصادية عن طريق الديون، فتخلصت من ديون صندوق النقد الدولي الذي يَفْرِض عادةً على الدول المدينة برامج يختارها، تخلصت منه بديون أخر لدائنين آخرين، فاقت كثيرا ما كان عليه الدين العام قبل حزب العدالة، حتى قاربت الديون نصف تريليون دولار، ورغم ضخامة هذا الرقم فإن كثيرا من الاقتصاديين لا يَعُدُّونه خطيرا، وذلك لأنهم يعتمدون في تقدير خطورة الدين على نسبته إلى الناتج المحلي، وهذه النسبة في تركيا تقارب 30%، بينما نجدها في دول السوق الأوروبية أضعاف ذلك، وفي اليابان تجاوزت الـ240%، نعم هكذا يقول الاقتصاديون.

وهناك معطيات أخر أُرْجِئُ الحديث عنها وأنصرف إلى جواب السؤال الذي أثارته خاتمة المقال السابق، وهو: لماذا ليس النظام التركي الحالي خيارا للأمة الإسلامية؟

الجواب: أبيّنه من وجهين: الأول: ما احتياج الأمة الإسلامية؟

والآخر: إلى أي مدى يحقق النظام التركي هذا الاحتياج؟

والأول جوابه طويل جدا ومتفرِّع وكثير الذيول، وربما أمكن تلخيصه بأن أحوج ما تحتاج إليه الأمة هو الإسلام كما جاء به نبيها -صلى الله عليه وسلم- ذلك الإسلام الذي يُغيرُ الناسَ ليكونوا كما يريد، ولا يتغير كيفما يريدون هم، وهو معنى قوله تعالى: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير» [هود: 112]، وقوله تعالى: «فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم» [الشورى: 15]

الإسلام الذي يشكل تفاصيل حياة الفرد والمجتمع والدولة، وليس الإسلام الذي تتحكم الدولة والمجتمعات والأفراد بتشكيل تفاصيله: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا» [النساء: 59]

الإسلام الذي تَكُون الدنيا فيه وطلبها تبعا للآخرة، وليس الإسلام الذي يُقَدَّم فيه رفاه الدنيا على متطلبات الآخرة: «ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون» [المائدة: 66] «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» [الأعراف: 96]

هذا هو الإسلام الذي تحتاج إليه الأمة، ولا أقول إنه الإسلام الذي تريده الأمة، لأن الأمة اليوم أضعف من أن تطيق هذا، لأنها اليوم معلقة بالدنيا وزخرفها، تحتاج كي تقوم بهذا الدين وتُقِيمه إلى التربية والتديين، وليس التماهي معها في متع دنياها دون عرض ذلك على مبدأ الحلال والحرام، أو عسف الحلال والحرام ليكون موافقا لما يريد الناس.

فهل النظام التركي كذلك؟

الجواب: لا، في كل ما ذُكِر؛ لأن تركيا والحال هذه لا تزيد في أحسن أحوالها عن أن تكون مشابهة لبلجيكا، مع فارق مهم، وهو أن الأخيرة تطبق النظام العلماني على شعبٍ 90% منهم نصارى يَقْبَلُ دينُهم بالعلمانية، في حين تطبقه تركيا على شعب 90% منهم مسلمون سنّيّون يرفض دينهم العلمانية.

وحين أقول، لا، في كل ما ذُكر فلا يعني لفظي هذا التزكية لنظام آخر، وهذا ما أجزم أن بعض القراء سيفهمونه، ويقول آحادهم لم لا تتحدث عن دولة كذا ودولة كذا كما تتحدث عن تركيا، وأنا إنما أبيّن من اختلط أمرها، وتوهّم كثيرون ومنهم نخب مثقفون وطلاب للعلم، أن جذور قادتها الإسلامية تعني بالضرورة أن ما يفعلونه منسوب للدين واجتهاد سائغ فيه، فأخذوا يتأولون لهم حتى قال أحد أَعْلَامهم في حوار تلفزيوني شاركتُ فيه:

«ما تفعله تركيا هو الإسلام»، ويُشَبِّه بعضُهم عملَهُم بعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة، وهذا من أشنع القياس وأبعده عن الصواب لأن رسول الله -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- لم يُحِل محرماً أو يسكت على ما أُوحِيَ إليه الأمر بتحريمه، ولو فعل لا تخذه المشركون خليلا كما قال تعالى: «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا»، وقال تعالى: «ودوا لو تدهن فيدهنون»، وكل ما كان من النبي في ذلك العهد أنه كان لا يغيّر بيده ولا يجاهد بسيفه، وعَمَلُ النبي في مكة نحتجّ به على طوائف أهل التكفير من القاعديين والداعشيين من دعاة التخريب وأدعياء الجهاد، لكننا لا نحتجّ به لمن يؤسلمون العلمانية ويهونون المحرمات ويستبيحون المنكرات.

وآخرون نسبوا صنيع إردوغان إلى التدرج في إقرار الشرائع، ومع أن المتابع لم ير خلال 16 عاما أي تدرج في حظر ما حرم الله، بل العكس هو الواقع، فإن التدرج لا يعني إقرار المحرم وتسويغه لصاحبه بدعوى الدستور أو الحرية، لكن قد يعني تأخير الحزم في منعه أو فرض العقوبة عليه.

إن الرئيس إردوغان لم يزعم أنه يصنع ما يصنع تطبيقا للشريعة أو باسم الإسلام، وإنما زعم ذلك طائفتان، الأولى: بعض محبيه دون هَوْن، والأخرى: من يريدون تصوير الإسلام كدين فردي لا علاقة له بالنظام أو المجتمع أو الحياة، وهذا منتهى طموح المؤسسات البحثية الغربية في رسم صورة الإسلام القادمة.

هذا وينتهي المقال قبل أن أتحدث عن السياسة الخارجية لإردوغان خلال 16 عاما، وهل تنسجم مع دعاوى بعض محبيه دون هَوْن، أم تنسجم مع حقيقة الدولة الوطنية النفعية الوصولية، وهذا ما أتركه لأيام قادمة.