قد يرى البعض أن في العنوان تجنيا أو تحميل الموظف البسيط مسؤولية تجاوزات مديره أو إدارته العليا، وبعيدا عما سوف يعتقد فإن البشر في مسألة الخير والشر سواسية، إلا في مقدار النسبة الغالبة لدى كل شخص، وطبيعة الوسط الاجتماعي والوظيفي المؤثر فيه، هناك بيئات تحتكم في تعاملاتها إلى الفضيلة والأمانة، وأخرى المصلحة الفردية وتحقيق المكاسب، بأي طريقة كانت هي المسيطرة، والفرد في هذه البيئات قد يكون هو الموظف أو المدير أو حتى حارس المبنى وسلوكه المكتسب، سواء إيجابي أو سلبي سيكون المتحكم في طريقة أدائه للعمل وتعامله مع من حوله، وكم من موظف في آخر الهيكل الإداري تجاوز تأثيره محيط إدارته وأصبح بين ليلة وضحاها المقرب وصاحب الرأي الراجح لدى رئيسه، أما نوعية التأثير فبحسب ما يحمل صاحبنا من قيم، وليست كل القيم صالحة، لذلك قد يقدم المدير على الكثير من الإجراءات المخالفة والمجحفة بحق آخرين تحت تأثير هذه الموظف غير النزيه أو الفاسد، الذي عمل المستحيل حتى يصل إلى هذه المكانة عند مديره، وهذه الفئة في بداية الأمر تظهر الإخلاص والتفاني وامتهان النفس التي لا تنكر الإهانة، وتستجيب لأي أمر يطلب منها، حسن أو سيئ، لا يهم طالما عن طريقه ستقفز خطوة إلى الخط الأمامي ليراها أصحاب القرار بوضوح، وهم بدورهم مدركون هذه النوعية التي تقبل أن تكون (ككرة شراب) في أي جهة تركلها ستهرول، حتى وإن اتسخت وتعفر وجهها بالوحل. ومع هذا الخضوع والرضا بالإهانة ينظر البعض بجدية في عملية استغلال هذه الفئة للقيام بمهام لا يقبل غيرهم فعلها، كالتجسس في الإدارة ونقل ما يدور بين الموظفين من مشاكل أو حتى وجهات نظر في قرار إداري، وكل هذا المعلومات تجمع دون أن يشك أحدهم أن هذا الزميل المستضعف هو من يقوم بالرصد، خصوصا وقد بنى علاقة جيدة معهم، وسرب بعض المعلومات عن الإدارة لتكون طعما، وبالتالي أبعد الشكوك عنه ليعتقد أن هناك أجهزة تنصت هي من تتولى المراقبة والرصد الصامت، وبعضهم يفطن إلى ما في نفس الإدارة، فيبادر هو إلى التجسس ورصد الأخبار دون أن يطلب منه ذلك. وهؤلاء يمثلون جميع أشكال الفساد الذي لا ينحصر كما يفهمه البعض في الجانب المالي، فهناك الإداري والأخلاقي والمعرفي والفكري، وكلها تجلب لهم المنفعة في النهاية. ومن هذا المنطلق يكون الموظف فاسدا ومديره نزيها نظرا لطبيعة الأدوار التي يقوم بها كل واحد منهم. وإذا كان المدير يتولى المعاقبة وملاحقة بعض الموظفين بناء على ما تم إيصاله إليه عن طريق الموظف المتجسس على زملائه، فهذا عائد إلى فهمه الخاطئ للمسؤولية ولعدم ثقته في ذاته لإدراك مواطن الخلل في إدارته ومعالجتها بوعي بعيدا عن مشورات الآخرين وأحكامهم. البعض تأخذه فكرة أنه القائد والمتحكم في إدارته وموظفيه، وأن المحاسبة وإيقاع العقوبة من صلاحياته ومن مهامه الإدارية، وهذا الأمر لا جدال فيه، لكن هناك أمورا يجب مراعاتها، أهمها التأكد من تقصير الموظف واستحقاقه العقوبة، مع عدم الانسياق خلف الوشاية، حتى وإن ثبتت المخالفة فالعدالة مطلوبة في تطبيق العقوبة كما هي مطلوبة أيضا في تقديم الحوافز والمساواة في التغاضي عن سلوك ارتكبه أحدهم، بينما غيره أقدم على نفس الفعل وغض النظر عنه لأي سبب كان، والأهم من ذلك أن لا نصادر حقوق البعض ونمنحها لآخرين دون وجه حق، وتحت تأثير وصاية أو وشاية. وفي حقيقة الأمر حتى نقضي على جميع أوجه الفساد لا بد أن تنتهج الأسلوب الحديث في الإدارة تاركين الأساليب البائدة التي تنظر لجودة الإنتاجية بقدر ما تحرص عليه من فرض الرقابة ومتابعة ما يقال عنها، وهذه الأساليب هي ما يساعد على تنامي هذه الفيروسات الضارة التي لا تحط في مكان إلا وتدمره، هي مرض عضال يجب أن نستأصله من مؤسساتنا وإداراتنا قبل أن يستفحل، وما زلنا نأمل أن تصل الجهات المكلفة بمتابعة ملفات الفساد إلى هذه النوعية من الموظفين، لتكتشف كم واحد منهم استطاع أن يفسد مديرا وإدارة، وربما أكثر من ذلك.