كل شيء في ريدنج يشجع على المشي ويشجع على السباحة، فنهر التايمز فيها يحوي أجمل المواقع الصالحة للسباحة، شريطة ألا تظن نفسك «طرزان» وتستخدم الحبال المعلقة لتقفز فيه. أول مرة وآخر مرة فعلتها كانت قبل أسبوعين، وما زلت أعاني من تورم أصابعي.

في الواقع ظننت أن الحبال مثل جريد النخل بمزرعة عّم أمي في بيشة، حيث كنا نتعلق صغارا ونسقط في البركة، وماءها البارد يبهجنا، وصوت مكائن الري الباقي في أذني حتى اليوم، يخفي عن الكبار ضجيجنا.

ريدنج فيها أيضا أنهار صغيرة تذكرك بالأحساء وعيونها بطريقة ما، كما أن القطار يفعل أيضا.

في ريدنج أو مدينة الأغنياء، التي يختارها الفنانون والمحامون منزلا لهم بدلا من لندن، يوجد أكبر عدد من الهومليس، والهوملس أناس مثلك لكنهم فقدوا منازلهم بسبب الرهن غالبا، هم ليسوا جهلاء لكنهم مثقفون جدا، يقرؤون دائما وربما تبادلوا معك حديثا شيقا حول رمضان وحول الإسلام، وعن شرقنا الذي شبع من الموت.

كل واحد منهم لديه قصة على استعداد لسردها عن الحبيبات الخائنات، وعن الرهن الذي لم يسدده، لكنهم لا يمانعون في وجود اللاجئين، يرفع أحدهم يده ويصيح: إنها بلاد الله لخلق الله، ثم يعرض علي أن أبقى، ينصحني أن أتزوج رجلا إنجليزيا، يقول بتفاخر إنهم رجال يحافظون على وعودهم، فأمازحه قائلة: أفضّل الايرش /الأيرلانديين فيصرخ غاضبا: أنتن تحببن الرجل الخطأ، إنهم سيئون فاسدون.

يملؤني التعجب من خمسمئة سنة غيظ، وربما غضب بين الإنجليز والأيرلنديين، أتذكر أستاذي وهو يحكي عن دهشة صديقته من أنه رغم أنه يعيش على ضفة النهر، ويملك كثيرا، يتحدث كالفقراء.

يومها، أشار إلى صدره أمامي، وهمس «في داخلي طفل أيرلندي فقير، ينتظر أمه أمام الباب جائعا حتى تعود في آخر النهار، وقد اشترت بأجرتها لهذا اليوم طعاما لأطفالها الستة».

أغمض عيني فيمر بي لحن لموسيقى الفولك، يصاحب حزن شاعر على حبيبته التي رحلت من أيرلندا لتسكن في شيزيك بلندن، لماذا شيزيك لا أعرف، ربما مجرد اختيار مثل شارع الستين الذي أشار إليه ضيدان قضعان وهو يردد: وأحن لكل ما في نجد حتى شارع الستين.

على كل حال، الأيرلنديون ليسو أكثر وسامة فقط من كل شعوب المملكة المتحدة، ولكنهم أكثر حزنا أيضا، والحزن يجعل الناس مختلفين، وربما هو ما يجعل ريدنج مختلفة.