تحتل العلاقات الثنائية بين النص من جهة وبين قضايا فكرية متعددة من جهة أخرى حيزًا واسعًا في الدراسات الفكرية والشرعية المعاصرة، ومرد ذلك راجع إلى الارتباط الوثيق لهذه الثنائيات بقضية مرجعية الكتاب والسنة، وقضية مكانة النص الشرعي وقدسيته، وقضية الاجتهاد في النوازل، كما ارتبطت هذه الثنائيات بقضية التجديد الأصولي والمرونة الفقهية، ومناهج الاستنباط، وما يتبع ذلك من خلفياتٍ علميةٍ وفكريةٍ، مما ألقى بظلال ثقيلة على فتاوى المعاصرين حيال كثيرٍ من المسائل المعاصرة.

وفي التالي سأتناول عرضًا سريعًا لجوانب مختلفة لنظرية خلاَّقة تتيح للفكر والعقل المسلم التعاطي المرن مع الكثير من القضايا النظرية والتطبيقية في مجال المعاملات، ومجريات الحياة سياسةً واقتصادًا واجتماعًا وثقافةً، هذه النظرية هي نظرية المصلحة عند الإمام نجم الدين سليمان بن عبدالقوي الطوفي (ت 716 هـ).

وصلب النظرية قائمٌ على تقديم المصلحة على النص في المعاملات، دون العبادات، إذ المصلحة دليل تشريع قائم بحد ذاته مستقل ما لم يُعارض بنص قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، وهذا ما أدى إلى إلغاء التقسيم الذي درج عليه الأصوليون للمصلحة، والذي كان على شعب ثلاث هن: مصلحة معتبرة، ومصلحة ملغاة، ومصلحة مرسلة، والأخيرة هي التي لم يأت بها نص.

ونظرية تقديم المصلحة على النص، لم يؤلف فيها الطوفي رسالة أو مؤلف مستقل كما توهم البعض بل أوردها في كتابه: (التعيين في شرح الأربعين) وهو كتاب شرح فيه متن الأربعين النووية، وجاء ذكر النظرية تحت شرح حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه-: «لا ضرر ولا ضرار».

وكان أول من ألقى الضوء على نظرية الطوفي هو العلامة جمال الدين القاسمي، إذ أفرد شرح الحديث آنف الذكر برسالة مفردة تحت اسم: رسالة الطوفي في المصالح المرسلة، وطبعها مع مجموعة رسائل في المطبعة الأهلية في بيروت عام 1324هـ، مع أن القاسمي تصرف بالنص اختصارًا وحذفًا كما أشار الدكتور مصطفى زيد في رسالته العلمية: المصلحة في التشريع الإسلامي (مايو-1954م)، وذكر القاسمي نظرية الطوفي في المصالح في تفسيره (محاسن التأويل) كذلك، ومن إفراد القاسمي وإشهاره لهذه النظرية، قام العلامة محمد رشيد رضا بنشرها في مجلة المنار في أكتوبر سنة 1906م (الجزء العاشر من المجلد التاسع صفحة 721)، ثم نقلها الدكتور عبدالوهاب خلَّاف في بعض كتبه حول مسألة مصادر التشريع فيما لا نص فيه، وكذلك تكلم عن نظرية الطوفي الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: (ابن حنبل)، وتكلم عنها أيضًا في الرسالة الكاشفة المجليّة الماتعة الدكتور مصطفى زيد -سابقة الذكر-، وبذلك أضحت هذه المسألة عناية الباحثين، وإن لم يقل أحد ممن تكلم عنها بمقتضاها كما أشار الشيخ علال الفاسي في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، وأزيد بل منهم من وقف ضدها بشراسة أيضًا.

وعلى الرغم من أن الطوفي عُرف أكثر أصوليًا – كما أزعم- إلا أنه لم يأت على ذكر نظريته في المصالح مباشرة في كتابه الأصولي الأبرز شرح مختصر الروضة، وعدم الإشارة إلى النظرية في كتابه شرح المختصر، والذي يفترض أن تذكر فيه من باب الأولى بحكم أنه في صميم الفن الذي يدرس تلك النظرية؛ راجع إلى أن تأليف كتاب التعيين في شرح الأربعين الذي قرر فيه نظريته فرغ منه في سنة 713هـ، أما كتاب شرح المختصر فقد فرغ منه في عام 708هـ، وبهذا يكون كتاب الأصول أسبق من كتاب الحديث، ومع هذا فقد أسس لنظريته في شرح مختصر الروضة، مما يدل على أن المسألة ظلت في ذهنه قيد النضج عدة سنوات.

يقول الطوفي في شرح مختصر الروضة: «... اعلم أنَّ هؤلاء الذين قسَّموا المصلحة إلى معتبرة، وملغاة ومرسلة ضروريَّة، وغير ضروريَّة تعسَّفوا وتكلَّفوا، والطَّريق إلى معرفة حكم المصالح أعمُّ من هذا وأقرب، وذلك بأن نقول: قد ثبت مراعاة الشَّرع للمصلحة والمفسدة بالجملة إجماعًا...» (شرح مختصر الروضة، 3 /‏214)، وقال في موضع آخر: «... وعلى هذا تتخرَّج الأحكام عند تعارض المصالح والمفاسد فيها، أو عند تجرُّدها، ولا حاجة بنا إلى التَّصرُّف فيها بتقسيم وتنويع لا يتحقق، ويوجب الخلاف والتَّفرُّق، فإنَّ هذه الطَّريقة التي ذكرناها إذا تحقَّقها العاقل، لم يستطع إنكارها لاضطرار عقله له إلى قبولها، ويصير الخلاف وفاقًا إن شاء اللَّه تعالى.» (السابق،3 /‏217).

ينطلق الطوفي في بناء نظريته هذه من ثقة عالية بالعقل البشري وأنه مستقل بمعرفة المصالح والمفاسد، وأن الله تعالى جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة فلا نتركه لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقًا إلى المصلحة أو لا يكون، إذ قرر الطوفي أن النصوص الشرعية متضمنة للمصالح، وأن الشريعة جاءت برعاية مصالح العباد جملة وتفصيلًا، لكنّه افترض في الوقت ذاته أنّ النّصوص قد تُعارض المصالح على نحو يتعذر معه الجمع، وعندها تُقدَّم المصلحة على النّص، إذ إن المصلحة أقوى، وأنه في غير دائرة العبادات فإن المصلحة تقدم على النص والإجماع إذا عارضتهما، والطوفي فرق بين العبادات التي لا يستقل العقل بها بدون النص، والمعاملات التي يرى أن العقل قادر على تمييز المصلحة فيها، والمصلحة دليل شرعي ومصدر تشريع فيها، يقول نجم الدين الطوفي: «واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وأن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها، وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول، ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل النافع». (التعين في شرح الأربعين، 274 بتصرف).

واجهت نظرية الطوفي نقدًا وتجريمًا يطول بنا مقام بيانه، ومن أجمل ما قرأت قول أحدهم: (أما من ألزم الطوفي بمثال لتقديم المصلحة على النص، فهو حجة عليه؛ لأن عدم ذكر المثال دليل على المسألة من حيث الجواز العقلي)، وكذلك فقد أحسن من قال: (لقد أتعب هؤلاء السادة أنفسهم في التحقيق والتفصيل والتفضيل، في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أراحهم عندما قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وما دام الطوفي قصر آراءه وأحكامه على «دنياكم» فلا إشكال).

أخيرًا، وضعت هذه الإشارات بين يدي الباحثين والمختصين في العلوم الإنسانية، من اجتماع وسياسة واقتصاد وقانون، ليستعينوا بالمختصين في علوم الشريعة، ويناقشوهم ويعرضوا ما عندهم من مصالح متعينة في كثير من النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك المسائل التي تساعد على تسهيل حياة الناس وتيسيرها، ولعلها أيضًا تكون سبيلًا لفتح الذرائع بدلًا من سدها.