كلنا يعلم الظروف التي ولدت فيها القصيدة العربية بغض النظر عن وقتها تحديدا، والذي قد يُختلف فيه نوعا ما، إلا أن المتفق عليه أنها من حروف عربية ولسان عربي وطبيعة عربية، كلماتٍ تحمل عاطفة ومعانيَ مختلفة، بوزن أشبه بالجرس الموسيقي المُطرب، سميَ فيما بعد وزنا، ونهايات متماثلة الأحرف والحركة سميت فيما بعد قافية..

وتنوعت أغراض القصيدة العربية فصيغت في المدح والرثاء والوصف والغزل والحكمة والفخر والهجاء إلى آخره من أغراض الشعر المتفق عليها، ولم تخرج على مر عصور العرب عن شكلها المعروف ما جعلها أقرب للشبه بالأثر المنحوت على الصخر، لم يندرس رغم تقلبات ظروف اللغة واعوجاج الألسن.

ونظرا لحاجة الشعر إلى تمييز حسنه من سيئه اُبتكر النقد فسار مع الشعر جنبا إلى جنب كرقيب عتيد يدون حسنات الشعر وسيئاته، وتطور أكثر فصنف الشعراء في طبقات، لن أستطرد أكثر في المقدمة، فهي كلام لا جديد فيه وإنما من باب ذَكِّر فقط.

ما يهمنا هنا أن نسلّم طوعا أو كرها أن كل بيت التزم فيه قائله بسلامة الوزن والتراكيب وقوة العاطفة، بما يتناسب مع غرض البيت، وأدى معنى مفهوما مألوفا تستسيغه الطبائع العربية السوية فهو شِعر، شاء نقاد العصر أم أبوا، حتى لو تكرر معناه من شاعر إلى آخر بقوالب تتفق وقدرة كل شاعر، وسواء صفق له الجمهور أم لم يصفق.

وما ينبغي أن نتفق عليه في هذا الجانب هو البعد عن الحشو وسوقي المفردات وغريبها، والتزام السهولة في غير إسفاف والجزالة في غير تقعر أو تكلف.

أما عن الابتكار والتجديد في الصور والمشاهد والاستعارات والكنايات والوصول إلى درجة الإدهاش فهذه قدرات يختلف فيها الشعراء، والاختلاف فيها يرجع إلى عدة عوامل أساسها الموهبة، ثم قراءات الشاعر وخياله وتأملاته في الكون والحياة، وما إلى ذلك من أشياء تولد الفكرة، وترسم أبعادها وتوسع أفقها، وقد أجاد وأبدع بعض الشعراء فيها ولا نستطيع أن ننكر، لكن ما يطالعنا اليوم من شعراء ونقاد سلكوا مسلكا مختلفا يحاولون جاهدين أن يخلقوا الشعرَ خلقا آخر، غير ما ألفناه واعتدناه، بل فرق ما ابتكر المبتكر، وإن كنا نقول بلسان واحد إن الابتكار محمود وضروري لكنهم جنحوا للغرابة وأنسوا إلى (السفسطة)، فباءت أشعارهم بنفور الناس إلا قليل ممن هم على نفس ثقافتهم، ومنهم من عاب الشعر البسيط الخالي من التكلف المناغي لمشاعر الناس الملائم لتجاربهم وسماه شعر الهدهدة، وخاف على مستقبل الشعر منه ومن كتابه!!

عجبا وألف عجب !! ألا يكون الشعر شعرا إلا إذا وافق ذوقه ودراسته هو ؟؟!! أم أنه كره مسلك الوضوح أو عجز عنه فاختار الغموض والسفسطة؟!

وإني لأتساءل حقا ما الخطورة المتوقعة على مستقبل الشعر العربي من شعر يصف حالات شعورية مكررة ومرتبطة بظروف الناس ومعيشتهم وأحوالهم المتكررة والمستجدة؟؟! وهل سيطمئنون على مستقبل الشعر إذا سار مسارا ملغوما بخوارق الصور وغرائب الاستعارات التي لا تستسيغها الطبيعة السليمة، والتي قد تصل أحيانا إلى الاستخفاف بالذائقة؟ لماذا يريدوننا أن نستسيغ معهم بالقوة أن (للسماء خاصرة) و(للغيوم جدائل) وأن (السفن تسير على اليابسة تاركة وراءها آثار عيس)، وغير ذلك من الشذوذ الذين يحاولون إقناعنا به؟ لماذا يظنون أصلا أن الخط الذي رسموه للشعر هو الأصح والأحق أن يُتبع؟!!

ولو سلّمنا جدلا بحقهم في هذا القلق وتلك الوصاية على مستقبل الشعر خصوصا مع وجود حرية النشر لكل من أراد أن ينشر ديوانا_حسب مخاوفهم_ فإنا نطمئنهم بأن الزبد يذهب جفاء، وأن تاريخ الأدب لن يخلد إلا ما يستحق التخليد، وأن الأسماء الهشة لا تثبت في القامات الراسخة

أخيرا والحديث طويل جدا.

إننا لا نملك الوصاية على أذواق الناس وميولهم لكننا نملك النقد البناء المنصف بعيدا عن المبالغة والإجحاف، ونتفق على كلمة سواء وهي أننا لسنا إلا ذوقا من أذواق مختلفة ومدرسة من مدارس مختلفة،

وأن البيت السهل الموزون المسطور على قواعد شِعر العرب ومنطقهم هو بيت شِعري سواء حلّق في سماء الخيال أم سار على أرضه، وسواء كان عبقريا مبتكرا أو جاء بسيطا مكرر الفكرة.