لم يكن الخروج لقيادة السيارة مبكرا في 24 يوليو 2018، العاشر من شوال 1439، والذي يعد يوما تاريخيا من حياتي كامرأة سعودية، سباق أولوية.

كما لم تكن الحاجة إلى قيادة السيارة في السعودية يوما خيار ترف، ولم تكن تلك المرة الأولى التي أجلس فيها خلف مقود سيارة وأدير المحرك، لكنها كانت الأولى في وطني وفي مدينتي، وبين ملامح ناس عُجنوا بالطين ذاته، وصبغت ملامحهم الشمس ذاتها، ولم يكن التحدي سهلا وأنت تمضي في كل خطواتك لانتزاع حقك وحيدا مسلوبا من الخيارات، إلا من الإرادة والثقة بنفسك.

كانت أبها تبدو فاتنة أكثر ذلك الصباح من تلك الزاوية في السيارة، أقصى اليسار في المقدمة، وكانت نظرات الدهشة ممن كان يشاركني الطريق، والتي تتبعها ابتسامة رضا -دهشةً أو استغرابا- تمر كأصابع ناعمة تمسح الدمع المنبهر من جمال اللحظة. لحظة لا يليق بها إلا أن تسمى انتصارا طال انتظاره بعد سنوات من منع غير مبرر، وعناء خلف الحاجة إلى الغير، ونداءات بحت بتلك الأحقية.

لحظة الانتصار في ذلك اليوم تجسدت لي في مشهدين: الأول: وأنا أتوقف عند إشارة «نهران» وعن يساري سيارة عائلية كبيرة تتجاوزني ببطء، يجلس كبيرهم بملامحه البيضاء الوقورة جوار السائق، وبها عدة أطفال ومراهقون تكدسوا بخفة وهم يديرون أنظارهم نحوي. في مؤخرة السيارة فتاة صغيرة لوّحت لي ضاحكة وعيناها تلمع كنجوم صيف بارد، وأنا أبتعد عنهم في اللحظة نفسها التي لوّح بيده المتجعدة الرجل العجوز بعينين راضيتين؛ فدخلت بين تلويحتين عمرها أجيال.

والمشهد الثاني: وأنا أقف جوار أحد منافذ بيع القهوة على الطريق: يظهر أمامي في سيارة جبلية رجل ملتحٍ، ينظر نحوي وعائلتي الصغيرة المحتفية جواري وخلفي بعداء واحتقار، يشير لي بأصبعه ثم يرفعها إلى السماء، ففهمت أنها دعوة يرجو بها شيئا، فرفعت له كوب القهوة الذي استلمته للتو كدعوة متبادلة، وابتعدت مدركة أن أبها تكتم أنفاسها بيدها، وتمارس التنفس في الخفاء، تبحث عن رضا الآخرين، بينما هي لم ترض يوما عن نفسها، فيرهقها اللهاث خلف الأمل.

اليوم، وبعد أربعين يوما من سريان تنفيذ قرار السماح للنساء بالقيادة في المملكة، بعد أربعين يوما كسيدة سعودية خلف مقود السيارة في مدينتها الصغيرة ومجتمعها المحافظ، الذي لا يختلف كثيرا عن الآخر في بقية الجهات، ما زلت أعيش نشوة الانتصار ذاتها مع امتنان حقيقي للقيادة الواعية التي مكّنت نساء الوطن من هذا الحق البدهي الذي تأخرتُ في الكتابة عنه، لأكتشف بنفسي مدى حقيقة البشاعة التي صور لنا بها أفراد المجتمع من الجنس الآخر على مدى عقود: فالرجل ذئب شرس لا محالة، والمرأة فرصة سانحة، فصرنا وجلين مترددين مرتبكين من أي تغيير أو اختلاط.

قبل أربعين يوما، بنى كثيرون توقعات خيالية عن حالات اعتداء وكوارث بشرية واجتماعية ومادية ستشهدها شوارع وطني، وكنت ككثيرات غيري ممن بدأن التجربة ننتظر أو نتوقع حدوثها، ولكن هذه الأسابيع كشفت لي عن كمّ التهويل الذي قيل، وعن فداحة التشويه الذي حصل، حتى فقد الآخر ثقته في شريكه في الطريق.

الواقع الذي رأيته وتأكدت منه وأنا أقود سيارتي، أنني بين مجتمع راقٍ وجيل شاب واعٍ ومنفتح على التغيير والتحضر، وإنسانيته العالية تفوق كل تصور توقع مسيئا سيحدث.

أتنقل في شوارع مدينتي دون الشعور بأنني طارئة عليها ولا على من فيها، ما اختلف فقط هو موقع جلوسي، وتمكُّني من التحكم في ممتلكاتي ووقتي.

أشفقت حينها على شبابنا من الجنسين، الذين نكبّلهم بالظنون دون سبب، ونحرمهم الثقة التي تنمي لديهم روح المسؤولية، ونستبق التوقع السلبي قبل أن نلمس إنسانية أرواحهم الفطرية.

حداثة تجربة قيادة المرأة للسيارة في المجتمع السعودي ستؤخر التفاعل معها، بلا شك، لكنها لن تجعلها غريبة ومخيفة كما كان متوقعا، ليس بسبب رفض الناس لها، بل بسبب التأخر في التهيئة لإعداد وتدريب النساء للقيادة، لعدم وجود مراكز تدريب في غالب المدن السعودية، على الرغم من أن القرار صدر منذ أكثر من 10 أشهر من الآن، مما سبّب حرمان كثير من السيدات من هذا الحق حتى الآن، فمراكز التدريب في مدن محدودة، لا تملك كل واحدة القدرة المالية والاجتماعية للسفر إليها أو البقاء على قوائم انتظار طويلة.

جمال هذه التجربة لن يجعلنا رومانسيين جدا، وحالمين تجاه بعض الأمور، فالرجل السعودي لم يعد وحده من يستأثر بالطريق، بل وجود روح الأنثى ودقة انتباهها للتفاصيل، سيسهمان -كما نأمل- في تحسين واقع القيادة في السعودية قبل القرار التاريخي، من تطبيق صارم لقواعد المرور وأنظمتها حتى تصبح القيادة ليست مجرد أسلوب حياة دون روح، بل تصبح مسؤولية وذوقا، لأن من الاكتشافات التي أجمعت عليها كثيرا من السيدات بعد قيادتهن السيارة في طرقات المملكة، أن الرجل السعودي لا يعلم أن على السائق أن يستخدم إشارات الانتقال من جهة إلى أخرى!