استبطن سيد قطب (ت: 1966) حاكمية أبي الأعلى المودودي (ت: 1979) وبثها في كلماته وأحاديثه ثم نشرها في الطبعة الثالثة لتفسيره «في ظلال القرآن» عام 1962، لأول مرة، وهي الطبعة التي بدأ بها برنامج تثقيف شباب الإخوان مع كتابه الشهير «معالم في الطريق»، الذي كان تحت المراجعة في ذلك الوقت ولم يطبع بعد، وذلك عندما عهد المرشد الثاني حسن الهضيبي رهين المحبس حينها إلى سيد قطب قيادة الجماعة المحظورة، لمحاولة لم شعث الجماعة التي عصفت في داخلها الحركات الانشقاقية نتيجة لصراع الأفكار الطبيعي في مثل تلك البيئة المحفزة، التي لا يضبطها منهاج علمي قويم للبحث والنظر والتفكير. ويعتبر المودودي أول من صاغ مفهوم الحاكمية، وترجمها سيد كخطاب مكتمل الأركان عبر القول والفعل والكتابة. اقترنت حاكمية المودودي بالجاهلية، وتابعه على ذلك سيد قطب- أعني مسألة ربط المصطلحين- وللشيخ ناصر الدين الألباني ثناء عاطر على المودودي وسيد في كتابه: «الحديث حجة بذاته في العقائد والأحكام»، إذ يقول: (... أن تنتبهوا لأمر خفي على كثير من الشباب المؤمن المثقف اليوم فضلا عن غيرهم، وهو أنهم في الوقت الذي علموا فيه - بفضل جهود وكتابات بعض الكتاب الإسلاميين مثل السيد قطب -رحمه الله تعالى- والعلامة المودودي -حفظه الله- وغيرهما أن حق التشريع إنما هو لله تعالى وحده لا يشاركه فيه أحد من البشر أو الهيئات، وهو ما عبروا عنه بـ«الحاكمية لله تعالى»، وذلك صريح تلك النصوص المتقدمة في أول هذه الكلمة من الكتاب والسنة. (الألباني، الحديث حجة بذاته في العقائد والأحكام، الأولى، 1425، مكتبة المعارف الحديثة، الرياض، ص 91)، والألباني له أحاديث كثيرة – لاحقًا- تنتقد بعض جوانب هذه النظرية.

عد الكثير من العلماء وبعضهم إخواني التوجه والإيديولوجيا أن مصطلح الحاكمية مصطلح دخيل على الفكر الإسلامي، ويشار إلى أن محمد الغزالي من أوائل من انتقد سيد ونظريته، وهذا كان في فترة فصله من الجماعة-، ولكن غلبةُ التعاطف مع نكبات الإخوان الجدد في ذلك الزمن، إضافة إلى النفس النضالي والثوري للمصطلح جعلاه ينتشر ويتكاثر في عقول القوم.

المشكلة المعرفية الكبرى الكامنة في الحاكمية جاءت من إقرار فرضيتين الأولى من صلب النظرية، وهي أن مسألة الحكم والإمامة من الأمور الكبار في الدين التي لا يستقيم حال الأمة إلا بها، ولا يقوم إيمان الأفراد إلا عليها –، وهنا اختلفوا مع ابن تيمية الذي يرى عكس ذلك، ولذلك اعتبر المودودي وسيد قطب أن توحيد الحاكمية هو ذاته توحيد الألوهية، أما الفرضية الثانية: فإن الحاكمية احتاجت إلى مفهوم الجاهلية لتعزيزها، وهذا أمر خفي قد لا يدركه بعض المتابعين، إذ إنه لا يمكن تحقيق الحاكمية لله حتى تنتقل السلطة من أهل الجاهلية إلى أهل الإيمان، وهذا يعني أنه لا يمكن أن تكتمل أركان الحاكمية لله إلا بحكم الإسلاميين، وهذا ما عبر عنه المودودي بوضوح وفي وقت مبكر جدًا، ولذا لا تجد صحويا إلا ويكفر الحكومات جميعها بلا استثناء-وهذه معلومة وليست تحليلًا-، وفقًا لفرضيات مفهوم الحاكمية.

(الخطاب الصحوي)

شكلت الفترة من 1987 وحتى 1994، صياغة خطاب ديني سعودي ظاهر وعابر للحدود اتخذ مسارًا مغايرًا للخطاب الديني السلفي الدارج، الذي يصاغ بتناغم تام في المواقف والآراء، من قيام الدولة السعودية الأولى (1157/‏1744-1233/‏1818) وحتى بداية الفترة المشار إليها (1987/‏1408)، وهذا الخطاب الذي تم الاصطلاح على تسميته بالصحوة حوى عدة مظاهر وأدوات وآليات، وكذلك تمرحل عدة مراحل حتى بعد التاريخ الذي اجتهدت الدولة فيه لمعالجة هذا الانشقاق الشاذ (1994/‏1415)، قام هذا الخطاب على قاعدة أساسية هي تنمية الحس المعرفي والنظري بمفهوم الحاكمية كما صاغها أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، ولكن بشكل تنفيذي وعملي يعمد إلى الممارسة والحركة والتنفيذ، وإذا علمنا أن أشهر ثلاثة رموز صحوية يعتبرون من مدرستين قامتا على فكر سيد قطب، وحاكمية المودودي، الأولى: مدرسة تنظيم 56 والذي عرف لاحقًا بالقطبية، ومثله في السعودية محمد قطب وتلميذه الدكتور سفر الحوالي، والثانية: إخوان دمشق بقيادة عصام العطار وتلميذه منير الغضبان المباشر حركيًا لمحمد سرور بن نايف زين العابدين، الذي مثل تلك المدرسة بعد إعادة الصياغة العامة لشكل وتشكّل الجماعة ككل – وليس السرورية فحسب- في المشهد السعودي، والذي كان من الضرورة الملحة تكتيكيًا اتخاذ الوجه السلفي، وكان من أبرز تلاميذ سرور الدكتور سلمان العودة والدكتور ناصر العمر.

وأشير هنا إلى أسلوب أو أداة -لها علاقة بموضوع المقالة- درج صنَّاع الخطاب الصحوي على ممارستها، وشكلت نقطة ضعف في تماسك بعض منتجات الخطاب الصحوي، وهي: القيام بوضع فكرة عامة لمنتج خطابي صحوي سواء أكان كتابًا أم محاضرةً أم برنامجًا فضائيًا أم غيره، ليقوم بعض من ينتدب من الأتباع بعد ذلك بإكمال الباقي، من البحث حول الفكرة وربطها بالنصوص الشرعية أو مقولات المتخصصين في مجال المنتج المطلوب عرضه على الجمهور، وربما كان بعض الأتباع هؤلاء من ذوي الشهادات الأكاديمية العليا، بل من أهل التخصص في ذات المنتج أيًا كان، وهم أعلى كفاءة وقدرة من الرمز الصحوي في مادة وموضوع المنتج أحيانًا، ومن هنا تأتي هشاشة الخطاب الصحوي بحسب القائمين على الإعداد، فتأتي المادة أحيانًا أقوى من صاحب الخطاب لتميز المعد، وتأتي أحيانًا مادة ضعيفة هزيلة لضعف الإعداد، وقس على هذا كتاب (المسلمون والحضارة الغربية).

(المسلمون والحضارة الغربية)

جاء هذا الكتاب ليفضح الادعاءات التي درج الصحويون على إطلاقها ذات اليمين وذات الشمال، من أنهم يدينون بالولاء والسمع والطاعة لولاة الأمر، ولهذا الوطن المعطاء، وهذا الكتاب يمثل وجهة نظر دهاقنة الصحوة، وربما جاء تناول الكثير من الرموز الإخوانية والسرورية في الخارج للكتاب بالترويج، والقراءات التحليلية يفضح هذا الأمر المريج، ويجعلك أمام حقيقة واحدة، أن تسريب الكتاب ونشره أمر قد دبر بليل حتى ربما دون تخطيط من صاحب الكتاب نفسه. ومحتوى الكتاب جاء مناقضًا لنفسه ومناقضًا لما كان يطرحه المؤلف بعد خروجه من السجن في 1999، واعتدال فكره في بعض القضايا خصوصًا ما يتعلق بالوطن والأمن الوطني بشكل عام، والكتاب بالعموم احتوى على مغالطات فاضحة، وسقطات فادحة في الفكرة والتناول، وهو أقل من أن يلتفت إليه لولا نفخ أعداء الوطن في صورة هذا الكتاب.

وما لا تخطئه العين أن الكتاب كتب بعدة أقلام، وقد لا يكون قلم المؤلف أحدها، عطفًا على ظرفه الصحي المعقد من العام 2005، والقارئ للكتاب يجد تداخل التخصصات، واختلاف الأسلوب والطرح والتناول في كل فقرة من فقرات الكتاب، فأنا من خلال قراءتي للكتاب قرأت لسعد الفقيه، ولمحمد حامد الأحمري، ولأحمد بن راشد بن سعيّد وغيرهم، في كتاب حمل اسم سفر الحوالي، وهذا يتضح في بعض الإشارات لبعض العلماء والمثقفين الغربيين الذين أجزم يقينًا أن الدكتور سفر الحوالي بعيد كل البعد عن معرفتهم أو التعاطي مع كتاباتهم، ويتضح كذلك في الحمق الغريب – الذي لا يقع فيه الحوالي غالبًا- في تناول القضايا التي تمس أمن الدولة، والقضايا الوطنية الحساسة التي تدرج تحت بند الخيانة، ويتضح ذلك من الانبطاح التام لبكائيات الإخوان ومظلوميتهم، وهو الذي لم يفعله الحوالي يومًا. نعم هو لا ينتقد أو يقدح جماعة الإخوان -الجماعة الأم للإرهاب- وقد يثني على بعض الشخصيات والمواقف في زمنٍ مضى، لكنه لا يتماهى هذا التماهي الفاقع كما لو كان أحد القيادات الإخوانية في المنفى التركي، ويتضح كذلك من خلال الجراءة والبذاءات التي كتبت، والتي غالبًا لا تصدر إلا عن سفهاء لندن.

والذي يبدو لي أن الرجل أملى بعض الأفكار إملاءً، ثم عرضت عليه وزاد فيها مرات وكرات، ثم عرضت على مجموعة ممن استودعهم الحوالي ثقته، وهم بدورهم أضافوا على الكتاب ما ينقصه من آرائهم وهرطقاتهم، وتراكم الرأي والإضافات، حتى بلغ هذا الحجم الهائل بعد تحريره تحريرًا نهائيًا ليخرج في طبعة تمهيدية كما كتب في صفحة معلومات الكتاب.

أخيرًا، لعلي أفترض فرضية أظنها الأقرب للواقع، وأقول ربما كان الكتاب جاهزًا – على غير الصورة التي ظهر بها- قبل إيقاف بعض الحركيين الإسلاميين، ولربما رأى الحوالي ومن حوله عدم التسرع والتعجل بنشره، خصوصًا وأن الوضع لا يساعدهم، ولا يحفزهم للنشر مع حزم الدولة والجهات الأمنية، ولعله لما طال الأمد على بعض سفهاء لندن -سعد الفقيه تحديدًا- الخائنين للأمانة وللوطن، تم تسريب النسخة للناس ونشرها دون مراعاة للضرر الذي قد يقع على الكاتب، وهذا الأمر اعتادت عليه الصحوة من سعد الفقيه الذي ورطها وورط دعاتها عدة مرات بحمقه وتسرعه ورعونته ورأيه الأعوج الذي لا يرى رأيًا غير رأيه أحق بالاتباع.