«الاستعراض» أو «العرض»، ولا أقصد به استعراض أزياء أو عرضا سينمائيا أو ما أشبه، بل أقصد به أولى المحاكمات الفكرية التي سجلها التاريخ للمنتسبين إلى الإسلام.

كانت الفئة التي خرجت على خليفة المسلمين الرابع علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- والتي نسميها «الخوارج»، تقوم بهذا العمل المسمى «العرض» أو «الاستعراض».

فكانوا في هذا العمل يأتون لمن يلقونه في طريقهم ويسألونه عن الخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- ويستعرضون قوله على معتقدهم حول هذين الخليفتين، فإن وافق قوله معتقدهم جعلوه يكمل طريقه، وإن خالفه قتلوه دون تردد.

كانوا أول فرقة عملية تمارس تكفير من خالفها وتقتله، واليوم نجد أنه ليس الخوارج فقط من استمر يقوم بذلك، ولا متشددي الطوائف الإسلامية، بل حتى الأفراد العاديين في مجالسهم.

جرّب أن تُخالِف أي شخص في أمر ما، وستجد النكير وسيل التهم ينصب عليك من كل اتجاه، ليس فقط في المخالفة للقناعة الدينية، بل حتى المخالفة في الرأي السياسي، بل وحتى الاجتماعي أو الثقافي والفكري.

بات كل شخص يقوم باستعراضك قبل أن يحدد قناعته حولك، ومصير علاقتك به، وهم مع هذا يدّعون التعددية والانفتاح الفكري، فإن خالفته حكم بوأدك إما اجتماعيا أو فكريا، أو ربما عمليا من الحياة، كما يفعل الدواعش.

أصيب كثيرون بما يمكن أن أسميه «الغرور الفكري»، بحيث لا يتحمل فكرة أن يكون هناك احتمال لصواب الرأي الآخر، أو سلوكه.

التعددية الفكرية تعني تقبل الفكر الآخر مهما خالف قناعتك -ما لم يكن داعيا إلى هدر دمك- تعني في الأساس التواضع للمعرفة العظيمة اللامحدودة في هذه الدنيا، فليس كل ما تتبناه صحيح مئة بالمئة، ولا كل ما يتبناه الآخر خاطئٌ مئة بالمئة.

دائما للحقيقة أكثر من وجه، ومن ادّعى أنه يعرفها كاملة من كل الوجوه، فقد كتب بيده شهادة جهله وسقوطه في بئر التطرف والانغلاق، ورحم الله الشافعي الذي قال «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

بل إن الأمر نفسه يحتمل الوجهين، ويستوجب عليك تواضعك للحقيقة قبولَ الوجهين، ورسول الله يقدم لنا أعظم مثال في نسبية الحقيقة، وتقبل جميع الفهوم حولها، في حادثة «صلاة العصر في بني قريظة» وهي حادثة مشهورة وثابتة عن النبي، إذ إنه أمر أصحابه بالتوجه إلى بني قريظة لقتالهم، حين خانوا عهده بمناصرته وأعانوا عدوه عليه، فقال لهم -لأصحابه- «لا يصلّين أحدكم العصر إلا في بني قريظة»، فارتحل أصحابه من فورهم تجاه حصن بني قريظة، وأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فصلاها بعضهم وهو في طريقه، وأخّرها البعض الآخر فصلاها مع المغرب بعد وصوله إلى بني قريظة.

الفئة الأولى تأولت كلامه -عليه السلام- أنه أراد منهم السرعة في السير لا تأخير الصلاة، بينما الفئة الثانية فهمت الأمر وطبقته حرفيا، ولم يعتب رسول الله على واحد من الفئتين، رغم أنه كان بإمكانه أن يقول لهم «قصدت بكلامي كذا»، لكنه تقبل اختلاف فهمهم للأمر الواحد.

الأمر الواحد قد يحمل أكثر من وجه، وبعضنا يرى وجها دون آخر، فمن الجهل والظلم أن ننكر الوجه الآخر، لأنه لم يقنعنا أو لم ندركه ببصرنا أو بصيرتنا، فحتى عندما يكون وجه الكون لديك ليلا، فضع احتمالا أن الآخر الذي يحادثك ربما كان وجه الكون عنده في الوقت نفسه مشرقا، لأنه على النصف الآخر من الكرة الأرضية! للأسف، فإن غالب -إن لم يكن كل- خلافاتنا، ترجع إلى حالة «الغرور الفكري» بوهم حيازة الحقيقة المطلقة، لأننا قد نغفل عن الوجه الآخر، رغم إيماننا بضرورة «التعددية الثقافية»!. ورحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي.