منذ اندلاع شرارة الثورة في عام 2011، واجهت تونس مهمّة صعبة تمثّلت في الحفاظ على شعلة الانتقال الديموقراطي متّقدة في خضم رياح التحديات الأمنية المتنامية باطّراد. فقد أسفرت الهجمات الإرهابية العديدة عن مقتل سيّاح أجانب ومدنيين ورجال أمن تونسيين، ناهيك عن أن الصراع الذي تشهده ليبيا المجاورة يطرح خطرا دائما، وهو واقع تجلّى بأوضح صوره في عام 2016 عندما شنّ مقاتلون في تنظيم داعش هجوما على إحدى المدن التونسية الحدودية.

لكن هذه الأحداث الدراماتيكية حجبت إلى حدٍّ بعيد مشهد الصراع المديد والأشد عنفا الذي تدور رحاه في الولايات التونسية الشمالية الغربية، حيث يخوض الجيش التونسي وقوات الحرس الوطني والشرطة منذ سبع سنوات معارك ضارية ضد مجموعتين جهاديّتين هما: كتيبة عقبة بن نافع التابعة لتنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة «جند الخلافة» في تونس الموالية لتنظيم داعش. وقد أسفر هذا الصراع عن مقتل ما لا يقل عن 127 متشدّدا و118 جنديّا وعنصرا في قوات الحرس الوطني وضابط شرطة في شمال غرب البلاد، وإصابة أكثر من 200 عنصر من طاقم الأمن والدفاع. ويشمل هذا الرقم غالبية الخسائر التي تكبدتها هذه القوات منذ نشوب الثورة.

تختلف طبيعة الصراع الدائر في شمال غرب تونس عن التحديات الأمنية الأخرى التي تعانيها البلاد، لأن هذا الصراع أقرب إلى تمرُّد منه إلى حملة إرهابية متمادية. فالغالبية الساحقة من الهجمات تستهدف قوات الأمن والدفاع، فيما تحافظ المجموعات على وجود دائم على الأرض، وتعمل على حشد الدعم في أوساط السكان المحليين. يُضاف إلى ذلك أن كل مقاتلي المجموعات تقريبا هم تونسيون جرى تجنيدهم من أرجاء البلاد كافة.

لم تحقّق كتيبة عقبة بن نافع وجند الخلافة في تونس سوى نجاح محدود في تقويض الدولة التونسية. فالمجموعتان لا تزالان صغيرتين إلى حدٍّ ما، وبالتالي تعوزهما القدرة على الاستيلاء حتى على قرية ريفية صغيرة وإحكام السيطرة عليها، ناهيك عن إخضاع مناطق سكنية أكبر. كذلك، يملك المتشددون قاعدة دعم محدودة في الشمال الغربي، وتشكِّل الإغراءات المالية، لا الإيديولوجية، الدافع الأكبر لمعظم مناصريهم.

صحيحٌ أن هذه المجموعات لا تحصد راهنا أي انتصارات، بيد أنها لا تتكبد أيضا أي خسائر. فعلى الرغم من الضغوط الحكومية القوية، تمكنت هذه المجموعات من البقاء والاستمرار، وازداد حجمها أربعة أضعاف ما كان عليه. وبالتالي، باتت قادرة على استغلال التغييرات التي طرأت على الوضع الإقليمي، سواء التقهقر الاقتصادي، أو الانتكاسات التي شهدتها العملية الديموقراطية في تونس، أو الانتقال السياسي المُتنازع عليه في الجزائر.

ونظرا إلى قدرة المجموعات المتشددة في الشمال الغربي على الصمود والاستمرار، يتعيَّن على الحكومة التونسية والشركاء الدوليين إعادة تقييم مقاربتهم الإستراتيجية للصراع. فلا الحلول الأمنية التقنية السريعة كافية للتصدي إلى التهديدات، ولا يكفي كذلك انتهاج مقاربة تركِّز حصرا على القضاء على المتشددين. بل إن كسر شوكة التمرُّد الدائر في الشمال الغربي يقتضي وضع رؤية إستراتيجية لمعالجة الظروف التي سمحت لكل من كتيبة عقبة بن نافع وجند الخلافة في تونس بالازدهار، وإلا فستبقى هاتان المجموعتان حيّتَين تُرزقان على الأرجح، وستواصلان تهديد استقرار البلاد.

مات هربرت*

 *باحث في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية – (مركز كارنيجي) - الأميركي