مع بداية عام هجري جديد نطوي عاما من أعمارنا ونودع سجلا مكتوبا بأعمالنا، نتأمل باسترجاعه أحداثا مختلفة مرت بأفراحها وأحزانها، تاركة آثارها كعلامات فارقة في نفوسنا وعقولنا ومشاعرنا، لتضيف إلى خبراتنا ورصيدنا النفسي والعقلي مزيدا من المعارف والعواطف والتجارب المتراكمة التي تتشكل بها شخصياتنا وتُبنى خلالها توجهاتنا، وتتحدد رؤانا المتباينة لما نواجهه من قضايا مختلفة نعيشها في حياتنا وتحيط بنا أحداثها وتأثيراتها.

تأكل الأيام أعمارنا وتحصد أعمالنا بخيرها وشرها، وفي ذلك يقول أبو الدرداء، رضي الله عنه، «يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك»، نسير إلى آجالنا في كل لحظة وندون بجوارحنا سيرتنا الذاتية في سجلنا الكوني الذي ينتظرنا عند خالقنا، لنستلم عليه الجوائز فيما أنجزناه من أعمال خير وعبادات مفروضة وطاعات مستحبة وسنن متبعة، أو الجزاء على ما فرطنا فيه من أعمارنا وأيامنا وعباداتنا، وما فاتنا منه لفرص كثيرة لم نقتنصها، وعمر مديد لم نحسن استثماره بإعداد العدة لخاتمته.

لنتفاءل بالخير مع بداية عامنا الهجري الجديد، ونستبشر بأن قادم الأيام أجمل، وننطلق بروح جديدة مشرقة وعزيمة قوية متجددة، نستشرف المستقبل بطموح بنّاء وأمل يملؤه الحيوية والنشاط في مواجهة التحديات، نسعى بإيمان ويقين بأن ما كان صعب تحقيقه بالأمس، سيكون ميسرا وممكنا في قادم الأيام، نتعلم من أخطائنا ونتعظ من مجريات الأمور ونعتبر بحوادث الأيام والسنين، كل يوم قادم هو فرصة ذهبية لن تتكرر، منحنا الله إياها لنأخذ الفرصة مجددا في تصويب ما انحرفنا فيه عن الجادة، وفي إتقان ما تم إنجازه مسبقا دون المأمول، نتطلع دائما للأفضل، ونتهيأ لمزيد من الإنجازات على مختلف المستويات الأسرية والمجتمعية والوطنية والعالمية، وليكن التميز شعارنا، والتفوق طموحنا، والإخلاص والأمانة قوامنا، والإرادة وقودنا، والوطن هدفنا بجميع مقدراته، فالوطن يتميز ويتألق بمواطنيه، ويزهو بعطائهم، هم لؤلؤه وأحجاره الثمينة، بهم يزدان، وعليهم يستند، وبهم يرتقي.

مع بداية عامنا الهجري الجديد نفتتح عقدا جديدا من تاريخنا الهجري، نسأل الله -العلي القدير- أن يجعله عام خير وبركة ونماء وسلام وأمن وتسامح يشمل دول العالم جميعها دون تمييز، بإصلاح الأحوال وإخماد الحروب وحل المشكلات التي تؤرق الأوطان والشعوب.

سجلت الهجرة النبوية للمدينة المنورة بداية عهد جديد ومرحلة متميزة من منهج الرسالة المحمدية، انطلقت من المدينة النبوية الفتوحات الإسلامية والغزوات لنشر الدعوة الإسلامية في بقاع الأرض، كانت المدينة النواة التي تأسست فيها الدولة الإسلامية بمفهوم الدولة الحديث، وفي المدينة كان سن التشريعات والأحكام، وبها تمثل الدين في علاقات مجتمعية متعاونة وتآزر أسري مميز وإيثار فريد بين أفراده، كان -عليه الصلاة والسلام- قدوتهم ونموذجهم الحي الذي يتتبعون أثره وأفعاله وأقواله في جميع أمور حياتهم وعباداتهم، فصلحت الحياة وتكاتفت الأمة وتعاونت على البر والتقوى، فَعمْ بينها الأمن والأمان، وساد التسامح والمحبة، وانعكس على ازدهار إسلامي ورقي حضاري وانتشار واسع لدعوته، عليه الصلاة والسلام، لأقصى بقاع الأرض.

نسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت، وأن يجعلنا أداة خير لما فيه صلاح الوطن والأمة الإسلامية والبشرية جميعها، بالتعاون والصبر والإرادة والعزيمة تُبنى الأوطان وتزدهر الشعوب ويتحقق الإنجاز، في العطاء سعادة وفي التضحية سمو، وبالعمل والجد والاجتهاد نصل لما نصبو إليه، ولنتذكر أننا مسؤولون عن أعمالنا وأعمارنا فيما قضيناها، وصدق الرسول الكريم في قوله «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به». وقال عليه الصلاة والسلام «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».

كانت الهجرة النبوية تحولا حقيقيا في تاريخ الدعوة المحمدية، فيها تحول نحو البناء والنماء، وانتقال نحو الاستقرار والطمأنينة، ومشروع لترسيخ العقيدة الدينية والقيم الإنسانية بمبادئها السامية وبمكارم أخلاقها، وعلى ذلك تربى أفراد المجتمع الإسلامي في المدينة النبوية، التي ما زالت نموذجا متميزا بمجتمعها وبطبيعتها وبأجوائها الروحانية وطمأنينتها التي لن تجدها في شتى بقاع الأرض، اختارها الله بين بقاع الأرض لتكون مأوى لحبيبه ومثوى له، اللهم لا تحرمنا أرضها، واجعلها مثوانا ومرقدنا يوم نلقاك... وصل اللهم وسلم على خير البرية محمد عليه الصلاة والسلام.