الحراك القانوني السعودي الذي تقوده الحكومة المستنيرة والمخلصون من أبناء الأمة السعودية هو مشهد مبهج، فمن مناقشة مجلس الشورى لتولي القانونيين منصب القضاء، إلى حضور المحامية السعودية التي تدافع وتنافح عن الحق، إلى ربما تولي المرأة القانونية القضاء مستقبلا، لذا فإن ملامح المستقبل مشرقة، ولا استغراب لدي لأن قائد المسيرة ملك الحزم والعزم، ولا أنسى عراب التغيير الشاب المتخصص بالقانون ولي عهده الكريم، يسارعان بقرارات حكيمة تدل على بعد نظر قيادتنا الرشيدة.

صحيفتنا «الوطن» أطلت علينا بخبر مؤخرا عن انتهاء دراسة بإنشاء هيئة لقضايا الدولة وتقدم بهذا المقترح عضو مجلس الشورى القانوني القدير الدكتور فهد العنزي، فما هي هذه الهيئة؟ ما هي مهامها؟ ولماذا الآن؟ في عهد الإصلاح الاقتصادي من الضروري جدا مراقبة المال العام وإيقاف هدره بكافة السبل القانونية المتاحة، وفي نفس الوقت توحيد الجهود ومركزيتها للدفاع عن الجهات الحكومية أمام مختلف الجهات القضائية، وقد يسأل سائل هنا لدى كل جهة حكومية شؤون قانونية وأشخاص يمثلونها فلماذا هدر الأموال؟

 الواقع أن الشؤون القانونية في أغلب الجهات الحكومية غير مفعلة على الوجه المطلوب فعند خسارة جهة حكومية لقضية واضح جدا حق الجهة الحكومية فيها فهذا يدل على خلل، أو عندما لا تعطي جهة حكومية الحق لمواطن رغم وضوح القانون فهذا خلل أيضا، -التعنت لا ينفع مع القانون- عندما يصدر الوزير أو المسؤول قرارا إداريا بدون الرجوع للشؤون القانونية، وربما يخسر قضية لصالح الجهة الحكومية، فها هنا المسألة، مسألة ثقافة قانونية نحتاج معها رفع الوعي القانوني لموظفي الشؤون القانونية بالجهات الحكومية، وهنا على الشؤون القانونية جانب وقائي، وحتى ولو لم يعد لهم الوزير أو المسؤول بالقرار فلا بد أن يبادروا بإخبار الوزير أو المسؤول، إن أي قرار لا بد أن يمر عليهم للتدقيق في جوانبه لتلافي أي إحراج للجهة الحكومية، لذلك على كل وزير ومسؤول أول بأي جهة حكومية ألا يتخذ قرارا بمنأى عن أخذ رأي الشؤون القانونية، فإذا أشاروا بعدم قانونية القرار فلا بد للوزير والمسؤول أن يستجيب.

 لكل ما تقدم نحتاج جهة محايدة لتمثيل الجهات الحكومية في كافة أنواع المطالبات تعزيزا للنزاهة والشفافية، لذا فإن هيئة قضايا الدولة هيئة مستقلة تتمتع بكافة الحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية، تقترح مشاريع اللوائح فيما يخصها، الصياغة الفنية لعقود الدولة الداخلية والخارجية، وقد يناط بها كذلك الرقابة الفنية على الشؤون القانونية بأجهزة الدولة، وإبداء الرأي القانوني حيال المسائل المهمة بتجرد وحياد، كذلك فإن تمثيل المملكة في الداخل والخارج أمام هيئات قضائية دولية أو تحكيمية، وهو أمر يحتاج هيئة متخصصة مزودة بطاقم قانوني احترافي على مستوى عال، كذلك فإن الهيئة تملك حق التسوية في منازعات الدولة طرفا فيها، وتلك خاصية مهمة خصوصا في مسائل جرائم المال العام، والتي أحيانا تخضع للتسوية لاسترجاع المال العام الثابت والمنقول بأسرع وقت ممكن وبأقل الوسائل، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الوسائل القانونية التقليدية في هذه الحالة قد تؤخر جدا جدا استرجاع المال العام، نظرا أحيانا للتلاعب الكبير بالمال ونقله من مكان لآخر ومن شكل لآخر، ولوجود المال العام بدول أخرى تتطلب تنسيقا مسبقا مع وزارة الخارجية، ويلعب فيها مبدأ التعامل بالمثل ومستوى العلاقات الثنائية عاملا مهما، قد تؤخر حل هذه القضايا لسنوات طويلة جدا، ويؤجل عدم عودة المال العام للدولة ربما تنمية ما أو مشروعا مهما، على صعيد آخر لا بد أن تكون للتسويات المالية التي أطلقها النائب العام مؤخرا في قضايا الفساد الكبرى قانونا ينظمها مستقبلا، فنحن دولة قانون، وسيادة القانون جزء لا يتجزأ من الدول التي تنشد الحضارة والديمومة، هيئة قضايا الدولة أشبهها بمحامي الدولة وتمثل «النيابة المدنية القانونية عن الدولة في الدعاوى والمنازعات في الداخل والخارج».

تعتبر هيئة قضايا الدولة من الخصوم الشريفة حيث تنظم طلبات الأجهزة الحكومية لرفع دعاوى لاسترداد حق لهم أو لدفع ظلم عنهم، وهي بذلك تحمي الجهة الحكومية أو تدفع تعنتها وربما تمنعها من رفع قضية على مواطن أو مقيم، وفي الحقيقة ليس لها أي حق برفع قضية، وبهذا أيضا نتجنب إغراق المحاكم بقضايا فقط لأن المسؤول غضب لسبب ما! لهذا فإنها -هيئة قضايا الدولة- كخصم شريف تلتزم الحياد ولا تفجر في الخصومة وتعطي كل ذي حق حقه، كأنها وسيط بين الجهة الحكومية وحق الدولة، والطرف الآخر سواء أكان جهة حكومية أخرى أو مواطنا أو مقيما أو حتى سائحا، لذلك فوظيفتهم جزء من السلطة القضائية وحساسة للغاية، ومع هذه السلطة الضرورية تأتي مسؤوليات كبيرة وضمانات، لا بد أن يتمتع بها أعضاء هيئة قضايا الدولة، منها الحصانة القضائية وحصانة من القبض، فلا يمكن القبض عليهم إلا في حالة التلبس، ويكون ذلك بعد اتباع الإجراءات المنصوص عليها بقانون الإجراءات الجزائية وقانون الهيئة الخاص مستقبلا؛ كما قد تمنح لهم ما يمنح للقضاة من حقوق ومميزات، وبذلك تكون هيئة قضايا الدولة حارسا أمينا وتردع كل معتد أثيم يعتدي على المال العام، إن وجودها مهم، والمال العام ملك وحق للجميع، لذا فإن تحقيق المصلحة العامة أسمى مهام الهيئة، أتمنى أن تقر وتحظى بطاقم قانوني سعودي متخصص في القانون ومن الجيل الشاب الذي يؤمن بأن السعودية ساعية للتقدم والمجد بكل المجالات، ولا صوت يعلو فوق صوت القانون، ولا سلطان لأحد على أعضاء هيئة قضايا الدولة لغير سلطان القانون السعودي.