عندما تتوفر البيانات وتؤكد الوقائع تفاصيل لحدث ما؛ فإنها تكون هي الفيصل والحكم في التقييم لحالة ما، يلتبس الأمر في مصداقيتها، وإن دعمنا أو نقدنا لحالة ما، يتأثر بما يتسرب لنا من معلومات وأحداث تشكل ثقافتنا وقناعاتنا، وعليه فإن الحكم بالمصداقية والشفافية والنزاهة، أو الشعبوية وغيره، يَضعُفْ أمام الحقائق فتكون هي الحجة والبرهان.

وعند مناقشة أو تقييم أي موضوع أكاديمي، أو تحليل شأن إداري يتعلق بالجانب المهني والوظيفي المتعلق بالجامعات، فإن ذلك يتطلب معايشة تلك المنظومة كأحد منسوبيها، لتدرك خباياها التي لا يدركها البعض، ولكي تكون المعالجة ذات مصداقية واقعية تخدم الحقيقة، فإن ذلك يقتضي كذلك خبرات مضافة لممارسة العمل الأكاديمي، تُبنى بتحمل تكاليف إدارية تتيح الاطلاع على آليات ومجريات الشؤون الإدارية في الجامعات، هذا علاوة على ما تسهم به القدرات الشخصية والمكتسبة في التمكين من رصد الإنجاز الفعلي، أو الوقوف على مواطن الخلل الحقيقي، الذي يؤدي إلى الإخفاق في تحقيق ما نستهدفه من خطط ورؤى إستراتيجية وطنية.

 وعلى الرغم من تفاوت الجامعات في مستوى منجزاتها ودرجة تقييمها العلمي ومدى تميز وسلامة جهازها الإداري والمؤسسي ومستوى تحقيقها لمعايير الجودة الأكاديمية؛ إلا أن هناك نظاما هيكليا وإداريا مشتركا تتوحد تحت مظلته الجامعات بمجملها، وتسير جميعها في نسقه العام.

 وعلى أثر احتدام النقاش وتناقض التقييم والرؤى حول ما تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول حادثة أكاديمية في إحدى الجامعات الطرفية، تفاعل معها الكثير من الأقلام والتغريدات من المثقفين والمتعلمين وغيرهم، والذي أدى لتحريك مياه راكدة، والدفع لفتح نقاش لعدد من القضايا التنموية ذات الصلة بواقع الحادثة وملابساتها الهامة، والتي تعرضت لثلاث جوانب أساسية في التنمية تتعلق بترجمة رؤية 2030 إلى واقع وطني نعيشه، وبما تضمنته من إستراتيجيات وبرامج تنموية ومبادرات مختلفة، وتتحدد تلك الجوانب في التالي:

1. رفع نسبة التوظيف والتوطين للوظائف.

2. السعي نحو التنمية الإقليمية المتوازنة.

3. تحقيق الاندماج الاجتماعي بين السكان.

 وبمتابعة الكثير من الآراء والمناقشات التي تعرضت للحادثة بملابساتها المختلفة، والتي تناقضت فيها الرؤى والتقييم؛ تبين أن هناك عدم وضوح وخلطا كبيرا شائعا، حتى بين المثقفين منهم لبعض المفاهيم المهمة، والذي نجم عنه تفسير وتقييم غير دقيق لما ارتبط بالحادثة من ملابسات، ولكي يكون تقييمنا علمياً محايداً وبعيداً عن الشخصنة، فإننا سنتجاوز تحليل الأسلوب الذي تمت فيه المناقشة وانعكاساته السلبية المثبطة، لنلقي الضوء على تقييم الجانب الأكاديمي والتنموي المتصل بالرؤية وتطلعاتها؛ وبما يخدم ما نطمح إليه وطنياً.

هناك خلط بين تفسير مفهوم التوطين «السعودة»، وبين مفهوم المطالبة بالتوظيف للمواطنين، فالتوطين مطلوب في القطاعات العامة والخاصة التي لا تتطلب قدرا كبيراً من المعرفة والتأهيل العلمي المتخصص؛ كمنافذ البيع العامة والمهن الحرفية المختلفة التي يجري تنفيذ التوطين فيها بمتابعة من وزارة العمل، فالتوطين في مفهومه الدقيق يعني أن تتحول جميع الموارد البشرية «العاملون» العاملة في القطاع المعني إلى موارد بشرية مواطنة، أما المطالبة بالتوظيف فتختلف تماماً؛ وهي تعني رفع نسبة مشاركة المواطن، في مجمل القوى العاملة في قطاعات الدولة، وذلك بسبب انخفاض نسبتهم إلى 28.81% من جملة المشتغلين في القطاع العام والخاص (2018)، ويمثل هؤلاء المواطنين تلك الفئة المتعلمة المتخصصة بتأهيل معرفي متنوع، يمُكِنها من المنافسة والمساهمة في سوق العمل الوطني بجميع قطاعاته، لتشارك مع غير المواطن في سوق العمل الوطني بقطاعيه، والذي يستحوذ فيه غير المواطن على نسبة 71.18% من جملة المشتغلين (2018).

ولما كانت الجامعات أحد القطاعات المستهدفة برفع نسبة مساهمة المواطنين «المؤهلين» فيها، في ظل تضاؤل نسبتهم الفعلية وارتفاع نسبة بطالة المؤهلين منهم رغم كفاءتهم، لذلك فإنه من الطبيعي أن نطالب ونطمح في توظيفهم في الجامعات كأكاديميين منافسين لغير المواطن، وذلك بتطبيق ذات المعايير والمتطلبات على الطرفين وبمصداقية تامة، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن طبيعة الهيكل الأكاديمي للأقسام تتشكل من معيدين ومحاضرين ودكاترة مختلفي الدرجات العلمية، ومع ملاحظة كذلك أن بعض هؤلاء الأكاديميين من غير المواطنين تدرجوا في التوظيف والخبرة في جامعاتهم التي احتضنتهم في دولهم، وأن أبناءنا هذا وطنهم وتلك جامعاتهم التي يفترض أن تكون الحاضنة الأولى للمتميزين منهم، سعياً نحو استكمال تأهيلهم الأكاديمي بالابتعاث وغيره، وذلك لا يعني بالطبع استبعاد جميع غير المواطنين، لأن وجود الهيكل الأكاديمي المتنوع في ثقافته ودرجته العلمية ومستوى خبرته وتأهيله مطلوب لإثراء القسم والعملية التعليمية، ولكن لا يكون ذلك على حساب تهميش المواطن وإقصائه بتلك النسب المرتفعة، في ظل ارتفاع نسبة العاطلين منهم والمؤهلين للعمل الأكاديمي، وإلا كيف سنساهم في بناء كوادر بشرية أكاديمية من المواطنين؟! وكيف سنحقق رؤية 2030 برفع نسبة مشاركة المواطن في سوق العمل الوطني؟!

 ومن جهة أخرى فإن من تطلعات الرؤية وإستراتيجيتها؛ تحقيق التنمية الإقليمية المتوازنة في جميع المناطق والمحافظات، بما يساهم في توفير فرص عمل متنوعة، ويخدم التوجه نحو تنويع القاعدة الاقتصادية للوطن، ويساهم في رفع نسبة الإنتاج المحلي غير النفطي، ولعل من أهم وسائل تحقيق التنمية الإقليمية المتوازنة وإحياء المناطق والمحافظات المختلفة، هو توفير مشاريع ومؤسسات تستقطب الأيدي العاملة والسكان بصفة العموم، ويكون ذلك بتوفير سبل الحياة العامة والخدمات المطلوبة، لوجود حياة طبيعية دائمة مستقرة وليست مؤقتة، وتعتبر الجامعات والمستشفيات المتخصصة والمشاريع الصناعية المتميزة نموذجاً لتلك المشاريع والمؤسسات الوطنية الهامة؛ وعليه فيجدر بنا كمواطنين وكمسؤولين المشاركة في ترجمة رؤيتنا لواقع نتعاون على تحقيقه، بدلاً من أن نساهم في زرع الإحباط وتثبيط الهمم لدى شبابنا، فالمواطنة ليست شعارا ننادي به، وإنما سلوك وأفعال تتُرجمِ تطلعات الوطن والمواطنين إلى واقع نعيشه وإنجاز نلمس مردوده علينا جميعاً.

 وبالتعاون والعدالة في إنصاف المواطن بمنحه مزيدا من الفرص التي يستحقها في كافة مؤسساتنا الوطنية؛ فإننا نقضي على ما يسمى بالعنصرية التي أصبحت تستهدف المواطن قبل غيره، ونتمكن من تحقيق الاندماج الاجتماعي بأقصى مستوياته، وبالمقابل فإن حرمان المواطن من فرص يستحقها ويترقبها في وطنه، فإن ذلك مدعاة لخلق العنصرية البغيضة وتأجيج أسبابها.

 من الواضح أن هناك ضعفا في درجة التفاعل واستشعار المسؤولية الوطنية، كما أن هناك خللا في الآلية المتبعة في توظيف مواردنا البشرية في كافة مؤسساتنا الوطنية، سواء في القطاع الخاص أو في الجامعات كمؤسسات وطنية تستهدف الارتقاء بمواردنا البشرية، وذلك يتطلب استقطاب المتميز منها لاستكمال تأهيله، أو الاستفادة من خبراته كاستشارات أكاديمية وكأعضاء تدريس متميزين، وإن مثل تلك السياسات مطلوب انتهاجها وفرضها في الجامعات ومتابعتها والمحاسبة عليها.

ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض البدلات التي يحصل عليها عضو هيئة التدريس السعودي «كبدل الندرة» والذي يعادل من 20% إلى 40% من راتبه؛ يساهم في محاربة توظيف السعودي من أخيه المواطن، لأن ارتفاع نسبة المواطنين في القسم سيفقده ذلك البدل، وعليه فإن الخطأ لا يصبح على وجه حق، بسبب تضاعف الانتشار، ولا تصبح الحقيقة خطأ لأن لا أحد يراها، وكما يقال؛ من الوطنية ألا تعمى عيوننا عن رؤية الحقيقة، فالخطأ خطأ بغض النظر عمن صنعه ومن فعله. ويقول سبحانه وتعالى «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب» المائدة (الآية 2)، ويقول عليه الصلاة والسلام «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»..