شدّ البدويّ ممشوق القامة حزامه على متنه، وركب فرسه الظامئ للركض في مجاهل الصحراء، بحثا عن المجد العتيد، وأشهر سيفه الصقيل في وجه الليالي العابسة: ليل اليأس، وليل الغربة، وليل الجوع.

لكن أمل الفتى الثائر اصطدم بصخرة معركة «الصريف» الصماء، حينما تعرض حليفه آل صباح لهزيمة  كانت كفيلة ببعثرة أحلام الشاب الصغير وتحويلها إلى أشلاء. وهو الذي رسم آمالا ضخمة على هذه الموقعة، تتلخص في انتصار الحليف الذي يخوله اقتحام الرياض من جديد.

عادت فلول الجيش إلى الكويت، وكان من المفترض منطقيا أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، أو في أحسن الأحوال أن يرضخ الفتى للأمر الواقع، على أن يعيد المحاولة من جديد،

لكن التاريخ وقف مترنحا وهو يشاهد ما لم يكن في الحسبان.

إذ شهدت «واحة بيرين» واحدة من معجزات القرن العشرين وأشدها غرابة وجرأة.

انحاز الفارس بعدد قليل من رجاله المخلصين إلى الواحة، ضاربا موعدا مع الفجر المتدثر بصمت الليل القاتل، لم يرعبه عواء الصحراء، وصفير الريح، في بقعة تكاد تكون معزولة تماما عن العالم الكبير، ولم ترهبه قلة العتاد عن استعادة البلاد، واسترداد ملك الآباء والأجداد. ولم تثنه سبّابة التاريخ وهي تشير نحوه محذرة وناصحة.

ولم يخطر ببال أحد أن الفتى الذي خرج لتوه من هزيمة محبطة، سيواصل البحث عن حلمه الأثير. وأي حلم!

حلم لا يقف بقدميه الطويلتين على أعلى نقطة من قصر المصمك، معلنا أن المُلك لله ثم لعبدالعزيز. كلا، ولا يقف على حدود الرياض أو يطل برأسه الكبير مشارف جبال طويق والسروات. كلا.. الحلم أكبر مما تظنون.

وترسل الحكومة البريطانية تحذيرات شديدة اللهجة إلى الملك الجديد، تحذره من خطورة الزحف إلى مكة، لكن مسامعه لم تكن تسمع شيئا سوى صوت التكبيرات في الحرم المكي الشريف، وعيناه لم تعد تبصر الخطابات الدولية والمراسلات، إنها لا ترى سوى أنوار المدينة المنورة وهي تلوح له من بعيد، أن آتِنا يا ابن سعود، فيأتيها مصليا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ومسلما على صاحبيه وآله.

ويتنبأ المستشرق البريطاني الفذ «فيلبي»، بأن هذا الرجل جاء من زمن آخر لا نعرفه. ويرشحه لاجتياح شبه الجزيرة بأسرها، لكن الحكومة البريطانية تفضّل المنطق الذي يقوده المستشرق الآخر لورانس، وتستبعد أن يكون لشاب أعزل القدرة على خوض معارك كبرى غاية في القسوة والصعوبة في هذه السن، وهذا الجيش وهذا العتاد.

حسنا، المنطق لا ينتصر دائما. الإيمان يصنع المعجزات، والشجاعة المطلقة تجعل التاريخ يترنح من جديد.

والحكومة البريطانية تصاب بالدوار، وهي ترى الملك عبدالعزيز يقبض على جدة، ويحكم السيطرة على الحجاز. آمنت بريطانيا بالمعجزات التي تخرج غالبا من رحم الصحراء، وتستدعي«فيلبي» لتقول له: ماذا يحدث؟!

فيقول باسما: ماذا تظنون، أنتم لا تعرفون عبدالعزيز، إنه رجل الأقدار!

أما عبدالعزيز، فقد ترك للعالم مهمة البحث عن أسرار معجزته الخالدة في الصحراء. وترك للأرض مهمة الاحتفاء بوطنه العظيم الذي لا يشبه بقية الأوطان، وترك لملايين الحساد إحصاء المثالب، ولملايين العشاق تدوين المناقب، وللدنيا بأسرها حق التقاط صورة تذكارية مع بلد يقود مليارا من البشر، ومضى بهدوء إلى محرابه مفترشا سجادته وتاليا ما تيسر من كتاب الله عز وجل، شاكرا الله عز وجل على تمام النعمة، وداعيا لوطنه أن يبقى منارة الإسلام، حتى يرث الله الأرض ومن عليها!.