ما إن يصل إلى سمعي خبر رحيل معلم من معلمي الرعيل الأول؛ إلا وأجدني حائرا وأنا أفتش في أحشاء اللغة عن الكلمات التي يمكن أن أكتبها، لتغسل حزني على رحيله، لكوني أشعر بنوع من ارتطام الوجع يدك أرجاء نفسي ثم يسكنها طويلا حزنا على فراقه، وإن كنت أعلم جيدا أن «وما المال والأهلون إلا وديعة...ولا بد يوما أن ترد الودائع»، فالموت حتم مؤجل علينا جميعا، ولكن مصدر ألمي على فقد المعلمين الأوائل واحدا إثر واحد، هو علمي بأن حياة المعلمين الرواد أو الذين رافقوهم حياة حافلة بالدروس، وتستحق وقوفنا كثيرا عندها، والحديث عنها نظرا لما تحتويه من مواقف وأحداث وتفاصيل جديرة بالتدوين، لكونها تسطر جزءا من تاريخنا غير المكتوب عن حلقات وفصول من حياة المعلمين الرواد، ومدرسة الأمس، المدرسة التي لا يزال حنينها يرن في سمعي، ويعزف قيثارة الزمن الجميل عند كل من كان يعرف كيف كانت مدارسنا، وكيف كان معلمونا، وكيف كنّا طلابا، أو عايش جزءا من تفاصيلها طالبا أو معلما، تفاصيلها اللذيذة ببساطة تلك الأيام، وجمال العمل المدرسي، الذي كان يزيّنه حب العاملين بالمدرسة لما يقومون به من مهام تربوية وتدريسية.

اليوم أقول مجددا عمن خطفهم الموت من بيننا فجأة، رحم الله الأستاذ علي بن راشد زهيان رحمة الأبرار، فقد صُدمت بخبر رحيله الذي فاجأني أثناء غيابي خارج الوطن، ليكون يوم الخميس العاشر من شهر المحرم للعام الهجري الحالي 1440هـ آخر صفحة من صفحات عمره التي يطويها، وبذلك تنطوي صفحة أخرى من صفحات أحد المعلمين الذين تتلمذوا على أيدي عدد من المعلمين الرواد ثم رافقهم بمدرسة مسلمة بن عبدالملك بخميس مشيط، التي كان اسمها بداية «المدرسة السعودية»، وهي المدرسة الأم لكل المدارس في خميس مشيط التي فتحت أبوابها في عام 1359هـ، وكان مديرها أحد التربويين الرواد في المملكة، وأحد الذين كانوا يقدمون دروسا في الحرم المكي، وهو الأستاذ عبدالفتاح راوه رحمه الله.

ولد الأستاذ علي بن راشد في مدينة خميس مشيط في عام 1361هـ بحي الدرب أقدم أحياء الخميس، وكان أحد الطلاب الذين درسوا في مدرسة مسلمة بن عبدالملك كما قلت على يد عدد من المعلمين الرواد، الذين زامل بعضهم فيما بعد، منهم على ما أتذكر الأساتذة محمد بن سعد بحيبحاء، إبراهيم بن فايع، حسين بن أحمد، ومحمد شلغم، وغيرهم كثيرون منذ التحاقه بها طالبا في عام 1369هـ، حتى تخرج فيها عام 1377هـ، حيث إنه التحق بعد ذلك بمعهد المعلمين بأبها في عام 1378هـ، وتخرج فيها معلما عام 1383هـ، وكان من زملاء الدراسة معه حسب ما ذكر لي ذات يوم الأساتذة سعد سعيد هداف، سفر عبدالله برقان، أحمد بن مسفر، عبدالله بقنة وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، حيث إني أكتب مقالي هذا وأنا بعيد عن زاويتي البيتية التي أحتفظ فيها بكثير من الأوراق المتفرقة التي أسجلها عن جيل المعلمين الرواد في المنطقة، وأدون من خلالها بعض ما أسمعه عن تلك الحقبة، التي لم أعشها بحكم السن من مواقف وحكايات، إلا أن غرامي بتفاصيل حياتهم التي امتازت بحب الثقافة والقراءة، والقرب من الراديو، ولإيماني بأن حياتهم تلك مدرسة واسعة، نتعلم فيها ومنها الكثير، يدفعني ذلك العشق إلى تسجيلها للأجيال الحاضرة التي تغيب كثير من تفاصيلها عنهم، لأنهم لا يعرفون «الطبشورة ولا السبورة السوداء» ولا يعرفون كيف كان المعلم يقف في مقدمة «طابور طلابه»، ولا يعلمون أن مدير المدرسة كان يذهب إلى بيت الطالب الغائب حينما يغيب ليسأل عن أسباب غيابه.

الأستاذ علي بعد تخرجه من المعهد ومعايشته للعمل المدرسي، التحق بمعهد الدراسات التكميلية بالطائف في عام 1400هـ إلى عام 1401هـ، وحصل على دورة في جامعة أم القرى بمكة المكرمة في عام 1405هـ، ثم تحصل على دبلوم الكلية المتوسطة في عام 1409هـ، بعد أن التحق بالكلية في عام 1406هـ، وكان قد اشتغل بالتدريس لمدة ما يقرب من 15 سنة، من بينها العمل مراقبا ومدرسا بمدرسة مسلمة بن عبدالملك، وكذلك بالعمل إداريا في المتوسطة الثانية لفترة من الزمن، إلا أنه بدأ العمل مدرسا في عام 1383هـ بمدرسة ذهبان التي تعرف حاليا بمدرسة محمد بن عبدالوهاب في ذهبان، ليزامل الأستاذ سعد بن علي بخيته رحمه الله، ثم كلف بعد ذلك بعدد من التكليفات الإدارية لعدد من المدارس بخميس مشيط، منها عمل وكيلا بمدرسة الإمام البخاري بالمثناة لمدة خمس سنوات، مع رفيق دربه الأستاذ عبدالله شلغم، ثم مديرا لمدرسة محدثة بحي العرق، وبعد افتتاح مدرستي عبدالله بن حذافة التي عمل فيها مدرسا والنعمان بن مقرن، كلف بإدارتهما لمدة عام، حتى عام 1405هـ كلف مديرا لمدرسة سعيد بن العاص لمدة خمس سنوات، ثم كلف بإدارة مدرسة أبي أيوب الأنصاري لمدة خمس سنوات، حتى تركها في عام 1416هـ ليكلف بعدها بإدارة مدارس المناهل الأهلية حتى تقاعده بعدها بعام أو عامين.

تميز الأستاذ علي بعشقه للتعليم كحال جيله الذين كانت تمثل لهم المدرسة البيت الذي يأنسون إليه، وكان إلى جانب رفيق دربه الأستاذ عبدالله شلغم أحد الفاعلين في الكشافة المدرسية، وكان لهما حضور بارز في الاحتفالات الوطنية والفعاليات الاجتماعية في ذلك الوقت، والمشاركات المجتمعية، عرف عنه الكرم والمواقف الوطنية وعشقه للعمل المدرسي، كما وعرف عنه حضور النكتة ولطافة النفس، إلى جانب عشقه للراديو والقراءة، والأخيرتان كان الفضل لأساتذته في ذاك الزمن، فهم من غرسوها في نفوس طلابهم، إذ لم يكن من نافذة يطلون من خلالها على العالم إلا عبر هذا المتنفس الثقافي الجميل، واليوم لم يعد لنا إلا تذكر الراحلين عنّا، فهنيئا لمن حسن ذكره بعد مماته وكما قيل عند أحدهم «وإنما المرء حديث بعده...فكن حديثا حسنا لمن وعى» رحم الله أبا راشد.