ملحوظة: هذا الرسالة وسابقتها تصوران مواقفك النبيلة مع شاب واحد من عشرات الأدباء الشباب الذين زرعتَ فيهم الثقة والأمل.

يا أبانا:

حين كان العمل معك هو أقصى طموحاتي، لأنك قيمة إنسانية وقامة ثقافية ومدرسة إدارية، فاجأتني بما هو أبعد وأعلى من هذا الطموح، حين رشحتني لعضوية مجلس إدارة نادي أبها الأدبي وأنا لم أبلغ الثلاثين من العمر، لأكون -حينها- أصغر عضو مجلس إدارة ناد أدبي في المملكة، وأصير -الآن بعد 19 عاما من ذلك التاريخ- أقدم عضو مجلس إدارة ناد أدبي في المملكة، وذلك بعد دخولي إلى المجلس عبر أربع دورات متتاليات، لم تكن لتكون لولا بدايتها الأولى، وهي ترشيحك لشاب لم يكن يطمح إلى تحقيق ما بكّرت في ترشيحه له، إلا بعد عقد أو أكثر.

الفقرة السابقة كافية للدلالة على أفضالك الغامرة، إذ أصبحتُ بثقتك صاحب قرار في المؤسسة الثقافية التي أحبها وأريد خدمتها خدمة لثقافة المكان الذي أعشقه، فضلا عن أنني أدين لهذه المؤسسة بفضل كبير، وما ذاك الفضل في حقيقته إلا فضلك الذي أعجز عن رده مهما عملت، وليس لي إلا أضعف العمل، وهو أن أكتب هذا الفضل وأنشره لأسجله لك، ولعله يلفت نظر التاريخ يوما.

في مجلس إدارة النادي الأدبي برئاستك، وعبر ما يقرب من سبع سنوات، لا أذكر أن اجتماعا -من مئات الاجتماعات- تجاوز 30 دقيقة، على الرغم من أن جدول الأعمال يكون -أحيانا- مثقلا بموضوعات مهمة وكثيرة، وذلك لأنك تستبق الاجتماع بالاتصال على أعضاء المجلس عضوا عضوا، فتقنعهم بما تريد طرحه وبما تعتزم تنفيذه، أو يقنعونك بالعدول عنه، وبذا يصير الاجتماع سلسا وعمليا وموجزا، ويصبح مهمة إدارية إجرائية خالية من الخطب والملاسنات والخلافات، وتلك مزيتك الإدارية التي يفشل فيها كثيرون من رؤساء المجالس، برغم حرصهم على الإيجاز والإنجاز، لكن مهارتك الإدارية مختلفة، فضلا عن أنها مُعززة بما لك في نفوس الأعضاء من تقدير واحترام.

أيها الغائب الباقي: اسمح لي بأن أسجل شيئا للتاريخ، وهو -في جوهره- قراءة في بعض أحداثه، تقوم على الحدس المبني على معطيات ومعلومات عرفتها عن قرب، وشهدت منها ما لم يشهده غيري، وذلك أنه على الفور من ترجلك عن صهوة المؤسسة الثقافية المتميزة بك شخصا، وبإداراتك أسلوبا، عادت إلى الحالمين باختراقها وتطويعها أحلامُهم القديمة، وشعروا بأن ما كان مستحيلا في عهدك بات ممكنا في غيابك.

أزعم مقتربا من اليقين، أن البداية الحقيقية لأعمالهم الخفية كانت سابقة للانتخابات وما صاحبها وتلاها من طعون وأحكام وأقاويل وخلافات ومقاطعات ومماحكات، إذ بدأت محاولات الاختراق مع أول مجلس إدارة مُعيّن بعدك، وكان برئاسة الشاعر محمد زايد الألمعي، الذي أزعم أيضا أن إسقاطه السريع لم يكن سوى تنفيذ لتوجيه خفي من قيادات حزبية سياسية متربصة بالمؤسسة الثقافية، وقد قام على تنفيذ ذلك التوجيه السري العارفون به، والعالمون بالخطة والهدف، مستخدمين في ذلك الجاهلين به من الأدباء وغير الأدباء، غير آبهين بالآثار السلبية لتلك الممارسات السياسية الخفية على أداء المؤسسة، وعلى سمعة الثقافة والمثقفين في المنطقة والوطن، لأن هدفهم الأهم هو الاختراق واحتلال المؤسسة الثقافية، لتكون منبرا حزبيا سياسيا ذا أغطية كثيرة، عوضا عن أن تكون منارة تشع المعرفة الحرة، وتدعم الإبداع والجمال والمواهب والوعي، وتعزز أسباب السلم الاجتماعي، وقيم التسامح والتعايش والانتماء.

المكتوب في الفقرتين السابقتين ليس مقصودا في ذاته، لأنه لم يعد مهمّاً بعد أن تنبّه الوطن كلّه إلى طرائق المتربصين به وأساليبهم، فضلا عن أن مضمونه معلوم -منذ بدئه الأول- لدى قلة من أبناء النادي القريبين منه على الدوام، والمطلعين على أسرار لا يعرفها سواهم.

المقصود من إيراد الكلام عن حمايتك للمؤسسة الثقافية، وقدرتك على الحفاظ على استقلاليتها، هو الوصول إلى القول: إنك لم تكن رئيسا ناجحا لمؤسسة ثقافية وحسب، بل تجاوزْتَ ذلك إلى كونك رجل دولة من طراز رفيع، ورجل وطن من طراز مثقف وواع، وإلى أنك صاحب قدرة ممتازة على الاستشراف، وعلى معرفة بواطن التآمر السياسي وطرائقه التي تظهر غير ما تبطن، والدليل على ذلك أن محاولات الاختراق الجادة والناجحة نجاحا جزئيا، لم تكن إلا بعد مغادرتك كرسي رئاسة النادي، وأعني -هنا- المحاولات التي تجددت منذ سنة 1427، وذلك بعد أن خمدت أكثر من عشرين عاما، بسبب يأس أولئك عقب إخفاقاتهم في عقد الثمانينات الميلادية، وهي الإخفاقات التي كان وراءها وعيك وذكاؤك وإيمانك بالوطن.

يا أبانا:

حين تركتَ المؤسسة الثقافية بعد 28 عاما من العطاء المتصل، لم تترك رفقاء الدرب، ولم تنس أبناءك الذين منحْتهم الثقة والأمل، فمنذ مغادرتك النادي الأدبي، لا أذكر أنه مر أسبوع كامل دون أن تتصل بي، لتسأل عن أحوالي، أو تشيد بمنجز أو مقال أو نص أو مشاركة ثقافية، حتى كان اتصالك الأخير -قبل أسبوعين من وفاتك- شبيهاً بوداع الواثق من الرحيل.

أبا عبدالله/‏ أبانا:

كم كنتَ جديراً بتكريم على المستوى الوطني، وكم سعينا إلى ذلك، ولكنها الأقدار والتسويف والغفلات، وعزاؤنا أن تكريمك -الذي نظمه النادي سنة 1427، برعاية الأمير خالد الفيصل، وحضور الأمير فيصل بن خالد- كان كبيرا بالمكرّم والمكرِّمين والحاضرين، وعلى الرغم من أنه كان جهد المقلين من أبنائك في نادي أبها الأدبي، إلا أنه كان حديث الإعلام، ومدار الأقلام حينها، وكان الأبرز فيه إعلان الأمير خالد الفيصل إطلاق اسمك على أحد شوارع مدينتك الأثيرة أبها، وأنت بذلك جدير.

ها أنا أشاهد -باكيا- الفيلم التوثيقي الذي تناول جزءا من سيرتك، وعُرض في أثناء ذلك الحفل، فأشكر بحب الصديقين الوفيين: موسى محرق، وطراد الأسمري، اللذين شاركاني في إعداده وإخراجه، وها أنا أفتح مجلد صور فوتوجرافية يحتوي على أكثر من 200 صورة من ذلك الحفل، لأتذكر مع كل صورة همسة أو ابتسامة موقفاً أو حديثاً.

جزاك الله عنا خيرا، وكتب لك الأجر على ما قدّمته لوطننا وثقافتنا ووعينا وشخصياتنا، وستبقى مآثرك فينا ما بقينا.