قبل أيام، أطلقت على حسابي في موقع التواصل الاجتماعي «Facebook» عددا من الحالات التي أردت خلالها الاطلاع على حجم الانحياز العاطفي إلى التاريخ الذي تم تلقيننا إياه على مقاعد الدراسة ذات عمر، مقارنة بحجم الانحياز إلى التاريخ الذي تحققت معرفته نتيجة القراءات خارج صندوق التلقين.

جاءت الحالة الأولى التي طرحتها استفزازيةً، قلت فيها: أتمنى أن أعرف من أطلق خرافة أن الغرب أخذ منا العلوم والتقدم؟

كانت النتيجة -بكل أسف- مخيبة للآمال كالعادة، فالغضب العارم بلا حدود لم يكن مستغربا، وهي نتيجة عكست ضخامة حجم العاطفة التي تمت تربيتها عن طريق زرع الأغلاط التاريخية عبر عقود مضت، إذ جاءت الردود والمداخلات بأعداد كبيرة، تحاول الدفاع عن تاريخ معلوم لديهم، يحمل صبغة القداسة في بعض جوانبه!

الاعتقاد بأن لا تاريخ يشبه تاريخينا العربي والإسلامي، هو في الواقع يطلقه بعض المحسوبين على النخب الفكرية بين ظهرانينا، ويتبناه العوام في الغالب، وهو طعم فائق الذكاء رفعه قادة الإسلام السياسي عبر تاريخنا منذ قرون، وأخذ في كل مرحلة صبغة وشكلا جديدا من الترويج، وهذا الشعار المتعالي لن يجعلنا في صدارة تاريخ الأمم، بل سيجعلنا خارج التاريخ على نحو ما، وفي هذا الجانب تحديدا يعلق المستشرق الفرنسي ماكسيم رودونسون في «كتابه الإسلام والرأسمالية»، والذي صدر 1966 على شعارات الفردانية التي يراها عدد من المثقفين العرب في تاريخنا العربي، بتساؤلات من مثل: «ألستم بشرا يأكلون ويشربون؟ ألستم تبحثون مثل باقي البشر عن عمل يضمن لكم كسب العيش لإعالة أولادكم؟ ألا تواجهون من بين مواطنيكم من تتعارض مصالحه مع مصالحكم؟......».

ويتابع «القول إن لكلٍّ تاريخا خاصا لا يعنى أنه تاريخ فريد في نوعه أو استثنائي، فعلى الرغم من الاختلافات التي لا نهاية لها بين الشعوب، بسبب موقعها الجغرافي ولغتها وعقائدها وحروبها وانكساراتها وانتصاراتها، فإن للتاريخ منطقا واحدا ينطبق على جميع الشعوب».

في الحالة الثانية، كتبت: من يملك الآخر، نحن أم التاريخ؟ إذا كان التاريخ هو من يملكنا فتلك مصيبة، وإن كنا نحن من نملكه فالمصيبة أعظم!، وهذه الحالة لم تحظ بتفاعل كبير كسابقتها، بسبب ما أظنه مواجهة الحقيقة المرة، فإن كان التاريخ يملكنا فنحن أمة متخلفة لا تبحث في حاضرها ولا تفكر في مستقبلها، وتبحث في ماضيها عن حلول لحاضرها ومستقبلها، أي أننا نعيش وفق ما يريده الماضي التاريخي، وهذه مصيبة واقعة نعيشها! وإن كنا نحن من نملك التاريخ، فلماذا لم نستطع الاستفادة من مقدراته ومنجزاتنا فيه -إن سلّمنا بأن لدينا منجزات- وهنا تكون المصيبة أعظم.

الحديث عن المقارنات بين الأشياء، هي عادة دأب عليها الإنسان لتقييم نفسه، ومعرفة مكانته ومقدراته، وقياس أدائه، وهي عادة تحولت إلى علم له مواضيعه وخبراؤه، وأصبحت الأمم تهتم لمخرجات تلك المقارنات ونتائجها، وحين يتعلق الأمر بنقاء وعظمة تاريخ الأمم، فإن المؤلفين هنا لن يكونوا متفقين على صيغة واحدة في كتابة الأحداث، وهو أمر مفهوم جدا، لذلك فقد أضافت علوم المقارنة شيئا من العقلانية على عدد لا بأس به من التدوينات التاريخية، ومنها بالطبع تاريخنا العربي والإسلامي.

نقطة الضعف في تكوين صورة تاريخنا العربي والإسلامي، تكمن في أن الذين كتبوه كرّسوا مفهوم الفردانية الدينية كمعيار وحيد مطلق بيننا وبين الآخرين، لنظهر أننا الأفضل -وهو ما لا يمكنا القياس عليه من الأصل- فتلك ليست صنيعتنا ولا هو منجزنا، فما هو شكل الأفضلية هنا؟ بالطبع لا مكان لها من الإعراب، لا في السابق ولا في الوقت الراهن، ولا في المستقبل، من وجهة نظري.

هذا الوهم بتميزنا وتسيُّدنا العالم، بُني على ركيزة أساسية رفعها الإسلام السياسي وأمّن عليها العقل الأسطوري الجمعي العربي والإسلامي، تمثّلت في التلاعب بالمصطلحات التي حوّلت الوحشية والغزوات بين القبائل العربية إلى شجاعة وإقدام وفروسية، وإن اعترفت بأن الظروف التاريخية والثقافية مختلفة بين زمنينا، إلا أن الأخلاق والمبادئ ما زالت هي نفسها قبل الإسلام وبعده، وستظل كذلك حتى آخر إنسان على الأرض، وما سيتغير هو القناعات بالأشياء فقط، لأن المبادئ ثابتة والقناعات تتغير.