كنت أرسم لها صورة في المخزون الذهني، ما بين الحسي والمجرد،وما بين الحلم المخبوء وتجليات المضمر من المشاعر المحتدمة، هي عذراء الزمان، وبراري الطيبات، وسرير النخيل الأزلي، وقبيلة الشعراء العالقين في سماء الكلام، من هنا عبرت واستقرت مطايا الرسالة، وصافنات الضوء، ومصابيح الذاكرين، سميت في كتب التاريخ مدينة «الرخاء» في كل شبر من مفازاتها تلامس كتفيك سعفة تنوء بثمرها، في كل منحنى يعرق الصخر بعطره تحت لفح الهاجرة، ديرة مكتظة بالوجوه الحية الموغلة في العظمة والملائكية ونبل المعشر، ينثرون على جسدها بياض المجرات، ويسقون ترابها نبع أرواحهم، ويهبون مروجها مرايا الفجر الأخضر، هذه خاطرة عابرة مفعمة بالتوق المرهف، وانغمار الرغبة ونزعة الاكتشاف لموطن أرخيت سمعي له ذات عمر، وأنا أنسج له ملامح وتفاصيل من الغبطة والجمال، وياقوت الافتتان الملح والإلفة الدافئة، ذهبت بكل هذه الحمولات استجابة لدعوة كريمة من صناع الثقافة وعمال المعرفة وعشاق النجاح الفريد، وجدت أمة طافحة بالحياة تبني وتؤسس وتعمر الأرض بالمباهج والازدهار والبهاء الساطع، الأحساء تمثل الاكتمال الأرقى بين مسيرة التنمية والصعود الثقافي المتعالي، في داخلها ميراث ضخم من الوعي ومدونات تاريخية لم تكتهل، وعاصفة شعرية أسهمت في حداثة الشعر السعودي، في داخلها قلعة وواحة ثقافية استثنائية، تنتصب كعمود الضوء وتكتظ بالمكنونات الناضحة بالإبداع والخروج عن الرتابة والنمطية والانفلات من الأطر التقليدية، «نادي الأحساء الأدبي» تلك البقعة المضيئة في مشهدنا الثقافي بكل مدخراته وتدفقاته المدهشة، واحتشاده لخدمة مجتمعه وأداء رسالته يجعلك تقف احتراما لذكائه، حين استثمر دعم الدولة والبحث عن دعم إضافي من رجال الأعمال في محافظة الأحساء، ليستجيب لهم أبناء «حمد الجبر»، رحمه الله، ويقدموا للنادي دعما سخيا، لتجني الأجيال الحالية والقادمة ثمار ذلك الصرح الأدبي الثقافي الحضاري، حضرت عرس الوطن «الثامن والثمانين» في ليلة الاحتفاء به، على مسرح النادي وفي قاعته التي تستوعب ألف مقعد، أصغيت إلى أوبريت «للوطن موعد» أشرف عليه الدكتور ظافر الشهري رئيس النادي، وكتب السيناريو والحوار الدكتور سامي الجمعان، وقاله شعرا محمد الجلواح وعبدالله الخضير، وأخرجته إيمان الطويل، تسع لوحات وجدانية تتماس مع الوطن وقادته وجنوده البواسل، لوحات مشبعة بالحب والولاء وروح التضحية والفداء وعنفوان المهابة لوطن نعشقه منذ فجر الكون واخضرار اللون، عمل مأهول بالمديات والمشهديات الدرامية، والغنائية المبتكرة وتأجيج المشاعر الوطنية، أسهمت براعة الإخراج في تحريك المجاميع وتوظيف «السينوجرافيا»، وجعل العمل متسقا ومتجانسا ما بين الصوت والحركة والغنائية العذبة والصافية، مما سلكه في عداد الأعمال التي تليق بأفراح الوطن الكبير، لاحظت أن النادي رفع شعارا لافتا، حين حدد فضاءه ودوره بقوله: «نادي الأحساء الأدبي معلم ثقافي وصرح حضاري، يعانق نخيل الأحساء ويرتوي من مياهها العذبة- مناسبات وطنية- جلسات علمية متخصصة- أمسيات شعرية وقصصية- ندوات وورش عمل- مهرجانات وملتقيات وأوبريتات وطنية- شراكات ومشاركات مجتمعية- لجان ثقافية متنوعة»، زرت مدرسة الهفوف الأولى التي درس فيها الأمير «خالد الفيصل» في طفولته، والتي شهدت بواكير نبوغه المبكر، وحضوره المبهج فيما بعد وتأثيره العبقري في حياتنا الرسمية والشعرية والأدبية، زرت مسجد «جواثا» ثاني مسجد أقيمت فيه صلاة الجمعة في الإسلام، بعد مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتم تأسيسه في السنة السابعة من الهجرة،وقام ببنائه «بنو عبد قيس» الذين سكنوا الأحساء آنذاك، عندما تبوح أرض الأحساء بأسرارها فإنك تشهد في كل مواطنها، الآثار والمدونات والحفريات، والقلاع والحصون، وآثار الاستيطان والعمارة التقليدية، والفنون التطريبية والمعالم السياحية، سألت الدكتور ظافر الشهري بعد زيارتي لمقر نادي الأحساء الأدبي، كيف تحقق هذا المنجز التاريخي، فأشار بيده إلى تلك الرموز المعلقة صورها في بهو النادي من رجالات الأحساء ومثقفيها، إلى جانب ما حظيت به الحركة الثقافية الحساوية من دعم سخي من الدولة، ومن المخلصين من أبنائها البررة.