ما بين آونة وأخرى تبادرنا وزارة العمل ببرامج ومبادرات بشأن خدمة التوظيف، وتعمل على نشرها وترويجها بزخم من الفعاليات المختلفة التي تزرع فينا الأمل في كل حملة جديدة تطلقها الوزارة من البرامج والمبادرات، بأن هناك تغيرا في الرؤية، وتصحيحا للمواقف، واستيعابا متجددا ومحفزا بالتفاعل، لما يجري على أرض الواقع في سوق العمل الوطني، ولكن للأسف تخذلنا البرامج وتخيب آمالنا تلك السياسات والمبادرات المختلفة، والتي حتى الآن هي بعيدة كل البعد عن تقدير حجم البطالة الفعلية للمواطنين في سوق العمل الوطني، وقبل ذلك هي بعيدة كل البعد عن تقدير قيمة المواطن الاجتماعية والعلمية والمهنية بصفة العموم، وبما يحمل في طياته عدم الثقة بالمواطن، لأن ما تطرحه الوزارة من جهود في برامجها للتوطين أو في رفع نسبة مشاركة المواطنين في أي مجال تستهدفه، لا يتعدى تلك الوظائف المتدنية المرتبة الوظيفية -رغم احترامنا وتقديرنا لكافة المهن والوظائف-، وكأن تأهيل المواطن ذي الشهادات الجامعية بمختلف التخصصات وما فوقها، لا يستحق إلا تلك الوظائف، وأنه لا يمكنه إجادة غيرها، أو أن جميع الوظائف الأعلى أو المتخصصة قد امتلأت فعليا بالمواطنين، فلم يكن هناك بدّ من ذلك، وذلك يمكن قبوله في الدول التي تشهد تُخمة في مؤهلات مواطنيها الجامعية، كما تشهد تضخما في حجم مواطنيها المؤهلين الذين يشغلون الوظائف المختلفة في قطاعاتها المختلفة، وبالتالي لا يمكنها توفير مزيد من الوظائف لهم، سواء في القطاع العام أو الخاص، تفاديا للبطالة المقنعة.

ومما لا شك فيه أن الأنظمة والتشريعات الخاصة بالتوظيف هي الحاكم لواقع سوق العمل وهي المنُظم له، والتي يفترض أنها تخدم توجهات الوطن ورؤيته الإستراتيجية التنموية، ولا تتناقض معها أو تعمل ضدها، وذلك جزء مهم من متطلبات تحقيق رؤية 2030 التي تستهدف في بنودها، مراجعة صياغة التشريعات والأنظمة وتعديلها في كافة المؤسسات، بما يخدم تفعيل تطلعات الرؤية وتحقيقها على أرض الواقع، كنماذج تطبيقية فعلية وليست حبراً على ورق، وقد هُيئ لها مكاتب في القطاعات المختلفة لمتابعة تحقيق الرؤية ومستوى الإنجاز فيها، وليكون التقييم مستمرا، والمتابعة تتواءم مع ترجمة الأهداف إلى منجزات حقيقية تتوافق مع التطلعات والطموحات الوطنية، في تحقيق نقلة نوعية في التنمية المستهدفة خلال فترات زمنية محددة.

من جهة أخرى، فإن الثقة والاطمئنان، بل والاعتزاز بالمواطن على اختلاف درجة مؤهلاته، تُعدّ تقديرا له وللوطن قبل كل شيء، هذا الوطن الذي أنفق الكثير وبسخاء على تعليم المواطن وتدريبه وتأهيله، ليكون يده العاملة وإدارته المنظمة وقياداته التنفيذية في كل مجال وفي كل تخصص يتمكن فيه المواطنون بدرجاتهم العلمية المختلفة، ليكونوا سواعد الوطن ومكينته المحركة وهيكله الإداري والمؤسسي الرئيس، والذي يمكن خلاله تصحيح واقع سوق العمل الوطني، بما يخدم تطلعات الوطن والمواطنين، ويترجم جهودهم وعلمهم لمنجزات تنموية فعلية، تبرر ذلك الإنفاق وتلك الجهود المستمرة من القيادة للارتقاء بالوطن، والذي لن يكون إلا بالثقة والتقدير ومنح مزيد من الفرص للمواطن في كل قطاع ومجال فيه وظيفة هو يستحقها، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال نظام وسياسات تفرز برامج ومبادرات تخدم المواطن والوطن بحجم تطلعاته وبمستوى آماله المتوقعة.

وبمراجعة ما يجري في سوق العمل الوطني من تجاوزات لحقوق المواطنين وتهميش لدورهم، سواء من أكرمه الله بالحصول على وظيفة لا تناسب مؤهله، أو من لا زال عاطلا ضمن صفوف جملة العاطلين، نلاحظ وبشكل واضح، أن هناك عدم مواءمة ما بين سياسات وزارة العمل -بشكل خاص- والخدمة المدنية، وبين توجهات الرؤية وتطلعات الوطن، والتي تتطلب تقدير المواطن وتمكينه بمؤهله المناسب في كل مجال وفرصة عمل موجودة ملائمة، ويشغلها غير المواطن، أو خلال وظائف مستحدثة جديدة تخدم المجالات التنموية المختلفة.

ولعله من المناسب أن نُعيد تذكير مسؤولينا في وزارتي العمل والخدمة المدنية، بمدى الفجوة التي هم من يؤثر فيها، سواء بالدعم في السياسات لتضيق الفجوة، أو بالتجاهل والتهميش لتتسع الهوة ويصعب ردمها، إذ تشير البيانات الإحصائية لمسح القوى العاملة، للربع الأول من عام 2018، إلى أن القطاع الخاص هو المستهدف بالتوظيف، لكونه القطاع المنتج من جهة، ولأنه المسؤول عن تنويع القاعدة الاقتصادية بتوفير وظائف مستجدة، وهو المتخم بالعمالة الوافدة، ولأن نسبة المشتغلين فيه من غير المواطنين 79.68%، أي نحو 80%، بينما لا يشتغل المواطن في القطاع الخاص في وطنه!!، سوى بنسبة 20.31% فقط.

ومن الواضح أن الإحصاءات تشير إلى الانخفاض الواضح في مساهمة المواطن ومشاركته في إدارة دفة العمل في وطنه، ولعل ذلك يلفت الانتباه إلى مدى مناقضة سياسات سوق العمل الوطني، للتوجهات الوطنية المحفزة للمنجزات الحقيقية، والتي لن تكون إلا من خلال سياسات وأنظمة وبرامج تستهدف الارتقاء بالوظائف التي يتقلدها المواطن، ومزيدا من الفرص الوظيفية التي يستحقها المواطن، تلك الوظائف القيادية والتنفيذية والإدارية التي تتحكم في مفاصل الموارد البشرية والإنتاج في كل قطاع وكل مؤسسة في سوق العمل الوطني، والتي ما زالت حتى الآن تُحارب المواطن وتعمل على إقصائه، وما زال غير المواطن هو من يستأثر بتلك المناصب الحساسة والمؤثرة في تشويه سوق العمل الوطني، والتي ليس للمواطن منها نصيب إلا فيما ندر، وإلا فما تفسير وزارة العمل في برامجها المختلفة التي تحصر دور مشاركة المواطن في منافذ البيع وخدمة العملاء والوظائف الأمنية، وغيرها من تلك الوظائف التي نقدرها ونعتز بمواطنيها؟!، لماذا لا تتاح الفرص المتنوعة حسب المؤهلات الموجودة، وحسب حجم الفرص البديلة المهمة التي يستأثر بها غير المواطن في المواقع المختلفة؟! وذلك على الرغم من وجود المواطن المنافس له، وإذا كان التدريب معضلة فتلك مسؤولية وطنية على القطاع الخاص تنفيذها، وفق معايير وشروط تُقننها الوزارة وتقوم بمتابعة تنفيذها.

ومما يجدر التنويه له أن تلك الوظائف القليلة التي ينالها المواطن، والتي معظمها من فئة الوظائف البسيطة، لا تؤثر في الكفاءة المتوخاة للنمو الاقتصادي الوطني، ولا تفيد كذلك في التنمية الاجتماعية المستهدفة، بسبب انخفاض مردودها الاقتصادي والتنموي والمتصل بنوعية الوظائف ومستوى الأجر للموظف، لأن ارتفاع المردود الاقتصادي لتحقيق النمو الوطني الفعلي يتطلب أن يتقلد المواطن وظائف ذات قيمة اقتصادية عالية، تسهم في الارتقاء بالإنتاج الاقتصادي الوطني، والذي يكون بالوظائف المتخصصة مهنيا، سواء في التقنية أو إدارة الموارد البشرية أو الصناعية أو غيرها من المناصب والوظائف والمنشآت، التي تؤثر في تصحيح واقع سوق العمل وتحسين أدائه من جهة، وفي رفع نسبة دخل المواطن من جهة أخرى، والذي ينعكس بدوره على نفقات دائمة داخل الوطن، ومستوى معيشي لائق به وبالوطن، وذلك يسهم في تحريك العجلة الاقتصادية والتنمية الاجتماعية بالشكل الصحيح المستمر، والمستهدف وفق الرؤية الإستراتيجية.