لدي من سنوات الصداقة الطويلة مع الأخ العزيز جمال خاشقجي ما يسمح للتجربة أن تكتب بكل وضوح أنه رجل المفارقات والمتناقضات، التي لم أعايش مثلها شخصية أخرى في حياتي الأكاديمية أو المهنية، هو مثل طائر (اللوتو) الذي يقف جانبا على أعتى أسلاك الضغط العالي ثم يقفز منه، يسبح في البحيرة دون أن يغرق. كنت أجلس معه لساعات طويلة وهو يروي أيام وذكريات الدراسة في مدارس المدينة المنورة مع صديقه الأثير أسامة بن لادن، ومسترجعا أيام (بيشاور) في صحبته، وعلى النقيض لا زلت أتذكر بعض ردوده على بعض مقالاتي عن بن لادن وعن الإرهاب وعن القاعدة، حين كان يصفها بالمهادنة التي لا تناسب القلم الساخن الذي كنت أحمله. كيف عمل جمال خاشقجي ضابط إيقاع لصفحات الرأي في صحيفة (المسلمون) المنقرضة ثم يترأس لمرتين وعلى النقيض كل إيقاع هذه (الوطن) بمسارها وخطها المناقض المختلف؟ كيف كان جمال خاشقجي، بل كيف استوعب أنه كان مسمارا في حلق غلاة الإخوان؟ وكيف كان (الشاخص) الذي تهوي عليه أحجارهم وكلماتهم الموغلة في الشتم والقسوة؟ ثم كيف تحول إلى النقيض ليصبح اليوم رمزا وأيقونة لربيعهم المزعوم حد الخيال، أن يكتب كتابه الأخير: زمن الإخوان؟. كيف كتب مقاليه الشهيرين منتقدا رأيا لفضيلة الشيخ سعد الشثري بكل ما كان للمقالين من حضور طاغ وغير مسبوق، ثم عاد في الواشنطن بوست ليكتب دفاعا عن سلمان العودة. ستون عاما لأبي صلاح وهو يسبح في نصفها تماما عكس كل تيار ونصفها الآخر يسبح معه.

وحين طارت أخبار الدنيا باختفاء جمال رسم كثر كل سيناريو محتمل لتفسير ما حدث له. أما أنا فلا أرى شيئا محتملا إلا أنه سيبدأ رحلة جدية من التناقض بالسباحة مع التيار، إن كان لا زال حيا أو أنه وقع هذه المرة ضحية حقيقية لكل هذه الرحلة مع القفز بين تناقضين. إما أنه اختفى عمدا وطوعا ليظهر بين زمن للحديث عن بطولة جديدة، وإما أنه وقع ضحية لتصفية من اختطفوه في العامين الأخيرين، ورسموا له هذا السيناريو القاتل، ثم تخلصوا منه بحبكة رديئة كي يحرجوا أهله وبلده وشعبه... وبيننا الأيام.